بعيدا عن ملف زهرة الخشخاش السليبة, رأيت من الضروري طرح افكار هذا المقال في اللحظة الراهنة ضاق خلقي ولم أعد أقوي علي كثير لجاج في البديهي, أو المحاجاة في المطلق, أو مواجهة أسلوب الوزراء المحدث اللذيذ حين يتصلون. هاتفيا بأي كاتب تعرض لأداءاتهم أو سياساتهم كيما يقنعوه رغما عن عين أهله بأنه علي خطأ وبأنهم علي صواب, وهو ما أسميه:( أسلوب الفرهدة), أو استقواء المسئول علي الكاتب. نهايته.. أشدنا ما وسعتنا الاشادة وفي مناسبات مختلفة وعبر وسائط متعددة صحفية وتليفزيونية بمنجز وزير الثقافة في تحديث وتشييد البني الثقافية التحتية وعلي وجه الخصوص في قطاع الآثار, ومن ثم فلا تثريب علينا ولا ملامة, إذا مارسنا بعض القراءة النقدية لأداء الوزير الصديق الذي أمضي جالسا علي المقعد الحكومي وقابضا علي الحقيبة الوزارية ما يشارف ربع قرن من الزمان, وهي فترة بيقين كافية لتقييم مايمكن تسميته:( السياسات الثقافية) في البلد. وإذا لم ير الوزير أو آخرون أن تلك الفترة كافية للتقييم, أرجوهم ألا يكملوا قراءة هذه السطور, وأن يعتبروها نتاج عصبية مواطن مأزوم, وكاتب مهزوم لا يري وظيفة للكتابة سوي الانتصار لحق الوطن, وحقوق الناس, وتفعيل الشق الثاني للديمقراطية أي المحاسبيةAccountability ولو علي المستوي الشعبي والأهلي, إذ لا تعرف الدنيا ديمقراطية تقوم علي شق واحد هو المسئولية,Resposibility فالمبدأ المستقر في الاعراف السياسية, وتقاليد الحكم كونيا هو: لا مسئولية بدون حساب. ونحن مع ذلك نكتفي بالقراءة النقدية, إذ لم نعد قادرين علي النهوض بمهام( الحساب) الذي هو أنواع, أحدها تقوم به المستويات العليا من الجهاز التنفيذي, وثانيها هو مهمة البرلمان بغرفتيه, وثالثها هو مهمة الأجهزة الرقابية والمحاسبية, ورابعها هو مهمة السلطة الرابعة أو الصحافة. نهايته.. مرة أخري. لم يخبرنا أحد طوال الربع قرن الماضي عن مشروع سياسات ثقافية يتم تنفيذه في البلد, وينبغي علينا الاحتشاد خلفه أو مناقشته, أو المطالبة بتغيير بعض بنوده, أو اقتراح اضافة بعض الاحتياجات الشعبية عليه كيما تتم تلبيتها. كل من سمعناه هو استراتيجية يضعها مؤتمر المثقفين الآن فقط. فالمفترض بالطبع ان السياسات توضع وتنفذ من أجل الشعوب, وليس من أجل تصورات نظرية أو مزاجية لدي الوزراء.. باعتبار أن الشعب ليس هبة الوزير, وإنما العكس هو الصحيح. فما هي الاحتياجات الشعبية والوطنية اللحظة الراهنة فيما يخص الجهاز الثقافي, لا بل وفيما يخص كل الأجهزة التنفيذية والحزبية, والسياسية في مصر؟! هي نقاط ثلاث: (الديمقراطية).. و(التنوير).. و(التنمية). وكل من تلك الانساق الأساسية بقول واحد له امتداد ثقافي. وعن الديمقراطية نقول إن احترام حرية التعبير والإبداع, واحترام منطق التعددية الثقافية, والالتصاق بقيم الانفتاح علي الدنيا والتفاعل معها, وإفشاء وإذكاء ثقافة الحوار( علي ان يتم ذلك من خلال تصنيع عمل ثقافي إبداعي أو فني ينهض بتلك المهام).. هو مهمة ثقافية أساسية. فما هو نوع العمل الذي قامت به قطاعات وزارة الثقافة العتيدة, وهيكلها الجبار في سياق التحرك علي مسار تلك الديمقراطية؟. إن فنون( القول) وعلي رأسها المسرح هي جوهر التحرك الثقافي في الفضاء الديمقراطي, ومع ذلك لم تحظ باهتمام مؤثر أو محسوس, أو مخطط تتم فيه المراكمة علي نحو يجعلنا مطمئنين الي وجود سياسة ثقافية تنفذ في هذا المجال. أيضا هناك بعض تحركات وامضة هنا أو هناك, ولكنها تعبير عن حماس أفراد, أو رغبة في المقاومة, أو الانتصار لأبي الفنون, أو هي سداد موسمي للخانات, من دون اعتبارها مهمة موصولة ودائمة. وحتي تنظيم مهرجانات قومية للمسرح نشعر بأنه عمل شكلي, وبجوائز مضحكة رمزية لا تشي بأي مقدار من الجدية. ثم خروجا من موضوع المسرح إن باقي فنون وإبداعات القول التي ترعاها وتتبناها أجهزة الثقافة الرسمية, لا تعلي من قيمة التعددية بحال, لانها في التحليل النهائي ليست تعبيرا عن( التعددية في الكل), ولكنها تعبير عن( التعددية في الجزء) بمعني أن هناك سيطرة لاتجاهات سياسية وفكرية بعينها علي العمل الثقافي الرسمي, ونحن مع ذلك ليس لدينا مانع في الإقرار بهذا, والإذعان له, شريطة أن تكون تلك السيطرة هي وليدة نزوع شعبي, أو تعبيرا عن رغبة شعبية, أو أفرزها نقاش شعبي عام, شاركت فيه النخب, ووصل صداه الي القواعد. أما أن يشعر المرء بأن السياسة الثقافية والجهاز الرسمي( الذي يموله دافع الضرائب) صار أسيرا لرغبات وأمزجة بضع مئات من المسئولين, وأعضاء النخب المتنوعة في البلد, فذلك أمر اعتقد أنه يحتاج الي مراجعة. ومازلت أرجو ألا يكون الغضب هو وسيلة التعامل مع ما أطرح من أفكار, فلست وحدي علي أية حال من يدعو الي إعادة تقييم السياسات الثقافية في البلد. وعلي صعيد( التنمية) علي سبيل المثال تضطلع المؤسسة الثقافية الرسمية بمهمة كبري في مربع( التنمية البشرية) فما هو الجهد الذي قامت به وزارة الثقافة في هذا السياق؟. وما هي طبيعة الدراسات العلمية( أكرر العلمية) التي أجريت لدراسة تأثير ذلك الجهد إن حدث؟ وما هي العناوين الفرعية المحددة لملف التنمية البشرية في وزارة الثقافة, بعبارة أخري.. ما هي البرامج المحددة التي تنفذها الوزارة في هذا السياق, وأي الجهات بالضبط ناقشتها مع الوزارة؟, وما هي النتائج التي خلفتها هذه المناقشات؟. إن جهازا جبارا مثل:( الثقافة الجماهيرية) الذي يعمل فيه عشرات الآلاف من الكوادر المتميزة, لو تم اعادة تأهيله وتدريبه, لصار له شأن كبير جدا في حياة البلد, ونحن لا نلوم قياداته أو العاملين فيه, وإنما نلوم غياب سياسة ثقافية حقيقية لتشغيله, وتفعيل قدراته بعد دعمها بالطبع. هل يمكن ان تصير بيوت وقصور الثقافة في مصر علي النحو الذي تفقدت عشرات من حالاته علي امتداد خريطة البلد؟ وهل يمكن تجميد اللقطة حول ذلك الجهاز الذي يمكن ان يلعب دورا رائعا في التنمية الثقافية عند مشهد نشأة تلك القصور والأدوار التي لعبتها في ظل مناخ تعبوي تساوق مع طبيعة النظام السياسي في الستينيات, من دون مشروع تطوير جديد( مكتوب مسجل مدون) تشارك فيه الأحزاب, ومنظمات المجتمع المدني, وقد اضطلع بعضها بأدوار سمحت بتسميتها( وزارة ثقافة أهلية أو موازية) كما ساقية الصاوي مثلا, والتي قامت بتصنيع برامج ثقافية مفهومة للناس, فجاوبوا رسالتها, والتأموا حولها في مئات من أنشطتها. وبالطبع أنا لا أدمغ بالإدانة هنا اهتمام وزارة الثقافة بسمبوزيوم النحت, أو مهرجان المسرح التجريبي, أو فرق الباليه مودرنزيه( المحدث) أو لوحات الكوريوجرافي( التصميم الحركي الراقص) باهظة التكاليف في المناسبات القومية, فكل ذلك نشاط له جانب تعليمي لا بأس به, ولكنه تعبير عن( جزء) في منظومة عمل ثقافي يحتاجه الناس, وليس تعبيرا عن العمل الثقافي( بالألف واللام) الذي يحتاجه الناس, لأنه يحصر متابعيه في مستوي فكري وثقافي محدد ومحدود. فإذا بلغنا ثالثة الأسافي وأعني السياسة الثقافية إزاء( التنوير) ومواجهة التطرف, أجزم بأن هناك خطأ منهجيا وسياسيا يشارف الخطيئة في طريقة تعامل الجهاز الثقافي الرسمي مع ذلك الملف.. إذ تسحبنا المؤسسة الثقافية الحكومية وعبر مواجهات وأزمات متكررة بعضها مباغت ويفتقد المبررات الي حال استقطاب في المطلق بين( دينيين) و( لا دينيين), وتلك هي الكارثة الكبري في فهم ذلك الموضوع, لأن الأصل هو مواجهة( التطرف والتخلف والجمود والرجعية والإرهاب وعدم الاعتراف بالآخر ومعاداة التسامح), وليس الأصل هو مواجهة الدين بطبيعة الحال.. وأنا أنفي عن مسئولي الثقافة تحركهم علي ذلك النحو بوعي, ولكن النتائج كانت مزعجة الي أبعد الحدود, وأدت الي انصراف الناس عن التفاعل مع مايطرحه الجهاز الرسمي للثقافة, وربما كان السبب الرئيسي في ذلك الخلل وتداعياته الكبري هو ما أسميه( خصخصة) المسئولية الإدارية عن بعض قطاعات الثقافة في أيدي مسئولين لهم مواقف لا تعبر عن سياسات الدولة, أو توافقات المجتمع تحت عناوين من طراز:( التنوير) أو( التحرر), وهي عناوين لا تصطدم في أعتي الليبراليات الدولية بوجود الدين, وإنما بالاستخدامات السياسية للدين, أو( تأميم) حرية الأفراد والمجتمع باسم ذلك الدين. هذه معضلة صارت تقتضي تغيير الوجوه التي تتعامل مع ذلك الملف, والتي لم تحقق معاركها المفتعلة أية نتائج تذكر في سياق مواجهة التطرف. كل مانراه هو محاولات للالتحام بقوي ثقافية وفكرية هامشية جدا في العالم العربي, من بقايا اليسار التي أعادت تأهيل نفسها مع مزاج دولي بعينه, ودعوة أفراد مثل تلك القوي الي مؤتمرات وندوات تعقد بالقاهرة من جانب قيادات ثقافية رسمية ربطتها بهم أواصر صداقات وعلاقات تنظيمية وشخصية. هذه مجرد فاتحة لملف سوف أزوره كثيرا, وأتحدث فيه كثيرا. ولقد مارست هنا وبأكبر قدر من التحفظ( تجنبا للفرهدة) حدود المسئولية الصحفية التي أفهمها بوصفها( ليست تبريرا للتوجه السياسي) ولكنها( تنبيه لمخاطر التوجه السياسي). ورأيت في موضوع السياسات الثقافية وغيابها مايحتاج إلي كثير تنبيه. المزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع