كما أن الثورات العربية أنواع ومسارات, فالجيوش العربية أيضا أنواع ومواقف. هكذا تطل علينا أحداث عربية مشحونة بالدم والنار كما هو الحال في ليبيا واليمن وإلي حد ما أحداث البحرين, وأخيرا سوريا التي انضمت إلي نادي ثورات الشعوب من أجل الحرية والكرامة الإنسانية, وإن كان النظام يبدو أكثر تماسكا حتي اللحظة برغم كونه طائفيا بالأساس. فالجيوش العربية أنواع, فهناك جيوش مؤسسية تنتمي لقيم الانتماء للوطن وإعلاء مصالح الشعب المشروعة, والتحلي بمعايير المهنية والاحتراف, واختفاء الحسابات الشخصية. وفي المقابل هناك جيوش أسرية تضع الأولوية للحاكم علي الشعب, وتعلي من شأن النظام علي الوطن, وتوظف المهنية والاحتراف بصورة جزئية, حيث الأولوية والقطاعات الأكثر تطورا وتسليحا وتدريبا تكون تحت قيادة الابن أو الشقيق أو الصهر, أما القطاعات الاقل تطورا وتسليحا فهي التي بعهدة قيادات عسكرية غير مسنودة, وربما مشكوك في ولائها للحاكم والنظام. الجيوش العربية كما في حالات مصر وتونس تختلف عن حالات ليبيا واليمن وسوريا. الحالتان الاولتان هما من نصيب جيوش المؤسسات المهنية ذات الولاء للوطن والدستور ومصالح الشعب المشروعة. أما حالات ليبيا واليمن وسوريا فهي جيوش التفرقة والولاء للحاكم علي حساب الوطن والمواطنين. هذه التفرقة ليست من فراغ, بل هي نتاج خبرات ما قبل الثورات الشعبية العربية التي انفجرت نهاية العام الماضي في تونس, ومازالت مستعرة في كل من اليمن وليبيا حيث دماء الشهداء تسيل كل لحظة علي أيدي عصابات مسلحة, واعوان النظام وكتائب أمنية يقودها ابناء الحاكم أو أبناء اشقائه. وما يجري في ليبيا خير مثال, حيث يستهين الحاكم بشعبه ويعتبرهم جرذانا يجب قتلها, وإبادتهم فردا فردا علي أيدي الكتائب التي يقودها أبناؤه, وعلي أيدي مرتزقة تم جلبهم من بلدان إفريقية بواسطة شركة جلوبل الإسرائيلية للخدمات الأمنية والتي يقودها جنرالات إسرائيليون متقاعدون. لقد انحاز الجيش المصري لثورة الشعب المصري منذ الأيام الأولي, ووقف مدافعا عن حق المصريين في التظاهر والاعتصام والبقاء في الميادين, لاسيما ميدان التحرير الأشهر وسط القاهرة حتي تحقيق الهدف الأكبر برحيل رأس النظام, وامتنع عن إطلاق طلقة رصاص واحدة ضد أي مواطن مصري. هذا الانحياز يصعب أن نري مثيله في ليبيا واليمن, ففي كلا البلدين انقسم الجيش بين مؤيد للحاكم, وبين منضم للمواطنين الثائرين, وتطور الأمر إلي مواجهات ميدانية, وحرب دموية كما هو الحال في ليببا, والتي استدعت دموية حاكمها القذافي وابنائه تدخلا دوليا تحت غطاء حماية المدنيين وإنشاء منطقة حظر جوي لضمان عدم تحرك القوات الموالية للقذافي ناحية البلدات والمدن التي يسيطر عليها الثوار المطالبون بالحرية, وإنهاء ديكتاتورية الاسرة القذافية. احتراف ومهنية المؤسسة العسكرية المصرية يمنعها من الانقسام او الاحتراب الذاتي, أما أسرية القيادات العسكرية في اليمن وليبيا فتطرح النموذج الأخطر, حيث انشق قادة كبار ومعهم الكتائب التي يتبعونهم, والتي عادة ما تكون مرتبطة بقبيلة أو بعشيرة او بأبناء منطقة معينة. وجاء الانشقاق لصالح الثائرين, إذ نتج عنه أمران, الأول بروز ملامح تفكك النظام وتفكك آلته الأمنية بكل آثار ذلك علي سمعة النظام وقدرته علي التماسك, والادعاء بأنه أصل الشرعية وأن الثائرين هم مجرد خوارج علي الشرعية, أو عصابات مسلحة تنفذ خططا خارجية. والثاني توفير بعض الدعم والمساندة للثائرين. والأمران يصبان معا في بلورة وتجسيد توازن قوي جديد بين الثورة والنظام, كما يصبان في ممارسة المزيد من الضغوط المادية والمعنوية علي النظام وعلي رأسه تحديدا, وبما يعجل من رحيله مهما تكن محاولات المقاومة. هذه النتائج نراها ماثلة للعيان حين قرر العقيد علي محسن الأحمر الأخ غير الشقيق للرئيس علي عبد الله صالح الانضمام للثائرين والعمل علي حمايتهم. وبالرغم من الشكوك التي أبداها كثير من اليمنيين حول دوافع هذا الموقف غير المتصور للعقيد علي محسن الأحمر, واعتباره محاولة للالتفاف علي الثورة وشدها إلي مسار آخر غير الذي قامت من أجله, فقد جاء الانشقاق وتأييد الثورة ليضع ضغطا شديدا علي الرئيس, وعلي عدد آخر من قيادات الجيش اليمني الذين أعلنوا أيضا انضمامهم للثورة ومطالبها المشروعة. في الحالة الليبية ثمة غموض علي موقف كثير من القيادات العسكرية والأمنية, نتيجة غياب الشفافية من ناحية, وعنصر التداخل القبلي والأسري مع التركيبة التي قامت عليها قوات القذافي من ناحية ثانية, وبما يجعل من عملية الانشقاق مرهونة بمدي قرب العشيرة الأم من رأس النظام ومدي الولاء له, وبموقعها الجغرافي أيضا هل في الشرق أم في الغرب أم في الجنوب. ناهيك عن أن الكتائب الأكثر تسليحا وتدريبا هي التي يقودها أبناء القذافي نفسه كالمعتصم وخميس والساعدي وغيرهم. والمعروف أن القذافي بعد ثلاث محاولات للانقلاب العسكري علي حكمه قام بتفكيك الجيش الليبي قبل نحو عقدين إلي عدة كتائب متناثرة لا رابط مؤسسي بينها, وذلك بهدف الحيلولة دون انقلاب الجيش عليه مرة أخري, وفي الآن نفسه انشاء كتائب أكثر تسليحا, وأعلي تدريبا تحت قيادة أبنائه, وبحيث يكون ولاؤها الاول للنظام ورأسه المعلي, ومصالحها مرهونة ببقاء القذافي وأبنائه. وتلعب هذه الكتائب الدور الابرز في مواجهة الثائرين وفي السيطرة علي المدن, لاسيما طرابلس العاصمة بالغرب الليبي, وفي توجيه الضربات للمدنيين في المدن التي انضمت للثورة. وربما كان عبد الفتاح يونس وزير الداخلية المنشق هو الحالة الأبرز للقيادات التي أعلنت الانضمام للثورة منذ الأيام الأولي, وساعد علي ذلك كونه في المنطقة الشرقية في ليييا وقت اندلاع الثورة في71 فبراير الماضي. وهو من يعد الآن بمثابة وزير الحرب لدي المجلس الانتقالي الليبي, والذي يقود العمليات العسكرية ويشرف علي التدريب للمتطوعين الثائرين. ولا شك أن انشقاقه مبكرا لعب دورا في إصرار الثائرين علي استكمال المسيرة لإسقاط النظام, وإنهاء حكم الأسرة القذافية صاحبة الباع العريض في إسالة دم الليبيين. مثل هذه المسارات لجيشي ليبيا واليمن هي نتيجة مؤكدة لفقدان معني المؤسسة العسكرية الوطنية الجامعة, والتي تجر معها كوارث علي الوطن بشكل عام. ولعل هذه النتيجة الماثلة للعيان في بلدين عربيين شقيقين تدفع للنظر بكل تقدير للجيش المصري باعتباره مؤسسة للوطنية والانتماء للشعب ومصالحه المشروعة. ولذا حين أري كل هذا النقد الصريح أو المبطن الذي يقوله البعض لأداء المجلس الأعلي للقوات المسلحة, باعتباره بطيئا أو به شبهة التفاف علي مطالب الثورة لاسيما محاكمة الرئيس السابق وعدد من رموز نظامه الكبار, أو أن هناك خطة أو تواطؤا بين المجلس الأعلي وحركة سياسية بعينها للإجهاز علي الثورة خاصة مطلب الدولة المدنية الديمقراطية, او انه لا يستمع لمطالب الثوار لتطهير النظام من الحزب الوطني او انه يكبل البلاد باعلان دستوري لا قيمة له, إضافة إلي باقي الاتهامات المبطنة أو الصريحة, اشعر بأن هناك من يتربص بالوطن وبسمعة مؤسسته العسكرية التي كانت عاملا رئيسيا في نجاح الثورة, ولولا الحماية التي أسبغتها علي المصريين جميعا, لكان الحال غير الحال, وربما كانت مصر نموذجا دموياآخر لايقل عن ليبيا أو اليمن. وبعض التقدير للجيش ولقيادته مطلوب, بل هو واجب وطني وثوري في آن. المزيد من مقالات د. حسن أبو طالب