هنا ليس مطلوبا منك أن تخلع نعليك وأنت تخطو فوق تلك البقعة من الأرض وإن فعلتها فلن يلومك أحد! فالدماء الطاهرة لمئات الشهداء سبق. وأن باركت المكان الذي يكاد يختصر تاريخ الوطنية المصرية في المائة عام الأخيرة أتحدث عن ميدان التحرير أرض البهجة والأحزان التي أنتجتها العبقرية الشعبية المصرية لكي تدافع منها عن نفسها أو تدفع عنها الانسحاق أمام القهر والفقر والفساد حائط صد أخير ضد ظلم الحكام ورفض علني وربما احتقار علني لثقافة الطغيان والتسلط والجبروت. هنا الكلمة الأخيرة التي يقولها الشعب دوما للفاسدين من حكامه: ارحلوا عنا.. كفاكم ظلما وإفسادا لحياتنا.. لاشيء مما تصنعونه يسعدنا فوجودكم مصدر شقائنا لذا ارحلوا غير مأسوف عليكم يقولها المتظاهرون بصدور عارية فتنصت بقية شعوب العالم وترتجف عروش الطغاة لما لا وميدان التحرير هو المكان الوحيد الذي تختفي بين أرجائه الأزمنة التاريخية وتختصر علي أرضه المسافات بين أبناء الطبقات الاجتماعية المختلفة وتذوب الفوارق بين الأديان ولا يبقي في أذهان الزائرين سوي المكانة التي صار عليها المكان.. كلمة لابد منها.. قد لا تصيب كثيرا محاولة أي كاتب أن يروي ببضعة سطور قصة ميدان التحرير فالمكان أعلي وأغلي من أن يحاط بمجلدات لأن كل شبر علي أرضة يروي سيرة إنسان مصري حر خرج من بيته وجاهر بصوته وقال للظلم لا فاستطاع أن يحول مع بقية أخوته الحلم إلي حقيقة ناهيك عن كم المباني الهامة التي تحيط بالميدان من كافة أرجائه كالمتحف المصري وجامعة الدول العربية والمبني القديم لوزارة الخارجية ومجمع التحرير وغيرها وكل منها شاهد علي عظمة الشعب المصري. فبلغة الجغرافيا هو أحد أكبر ميادين القاهرة اتساعا وأهمها من حيث الحركة المرورية فيربط بين العديد من ميادين القاهرة وشوارعها لاسيما منطقة وسط البلد كما يربط بينها وبين دار الأوبرا عبر كوبري قصر النيل, وبلغة التاريخ والحضارة يعد التحرير أكثر ميادين القاهرة شهرة وذلك منذ تم تأسيسه في عهد الخديوي إسماعيل عام1865 م كخطوة أولي في حلم تحويل القاهرة إلي مدينة حضارية علي غرار العاصمة الفرنسية باريس. الدكتور عبدالوهاب بكر أستاذ تاريخ مصر المعاصر بجامعة الزقازيق يقول: كان إسماعيل منبهرا بالحضارة الفرنسية ويراها بمثابة الشمس التي تشع علي العالم من بين جليد أوربا, ولذا فقد شرع عقب توليه حكم مصر عام1863 في اعادة تخطيط القاهرة من جديد وإنشاء أحياء ومباني إدارية وسكنية جديدة علي غرار الطراز المعماري السائد في باريس آنذاك وأوكل مهمة ذلك إلي المهندس الفرنسي باريل دي شامب والذي يرجع إليه الفضل في إنشاء ميدان التحرير بطول2500 متر وعرض1000 متر ومساحة لا تزيد علي400 فدان, وتم تقسيم الشوارع المتفرعة من الميدان وتخطيطها ومد أنابيب المياه وأعمدة الإنارة وإنشاء مبان جديدة راقية تحيط بالمكان كمبني البرلمان المصري وقصر وزارة الخارجية إلي جانب كوبري قصر النيل الذي يربط الميدان بالضفة الأخري من نهر النيل حيث محافظة الجيزة وبمرور الزمان تعاقبت الإنشاءات والأحداث التي شهدها الميدان. ويشير د.بكر إلي أن الميدان عرف بثلاثة أسماء منذ تأسيسه: الأول هو ميدان الإسماعيلية وقد ارتبط به لنحو100 عام تقريبا, والثاني هو التحرير وهو الاسم الذي أطلقته ثورة يوليو عام1952 م علي الميدان تيمنا بتخليص مصر من مفاسد حكم أسرة محمد علي ومن ويلات الاستعمار الانجليزي, وظل هكذا إلي أن تغير الاسم مجددا إلي ميدان أنور السادات وذلك كنوع من التكريم للرئيس الراحل محمد أنور السادات والذي استشهد في عام1981 إلا أن المفارقة الغريبة والكلام لا يزال للمؤرخ الدكتور عبد الوهاب بكر تمثلت في تجاهل المصريين لهذا الاسم الجديد وحرصهم علي الإبقاء علي الميدان باسم التحرير في أحاديثهم اليومية وهو الاسم الذي يتواءم مع مفردات الشخصية المصرية المحبة دوما إلي الحرية. وقد يحتار الكثير من الأجانب وحتي الكثير من المصريين من هذا التعلق للثوار المصريين بميدان التحرير في إحداث ثورة25 يناير الأخيرة وما أعقبها من اعتصامات داخل الميدان دامت لنحو18 يوما تكللت بتنحي الرئيس مبارك عن سدة الحكم نزولا علي رغبة الشعب فلماذا هذا الميدان دون غيره اتخذوه مقرا لثورتهم وقلعة حصينة تعجز حشود البلطجية من قادة الخيل والجمال علي اختراقها ؟ لكن الحيرة تزول عندما نكتشف مع المؤرخ عبد الوهاب بكر أن تعلق الثوار الجدد بالميدان لم ياتي من فراغ وإنما هو بمثابة موروث قديم بدا مع ثورة أحمد عرابي ضد الخديوي الظالم توفيق عام1881 فقد كانت علي أرض الميدان وحدة عسكرية خرج منها عرابي علي رأس فريق من الضباط والعسكر الوطنيين صوب قصر عابدين حيث قال كلمته الخالدة والتي ارتعد الخديوي علي أثرها لقد ولدتنا أمهاتنا أحرار. ويضيف الدكتور بكر: رغم انكسار عرابي بعد ذلك علي يد الإنجليز في موقعة التل الكبير عام1882 بفعل خيانة بعض الضباط الشراكسة له إلا أن جذوه الثورة والحرية لم تخمد أبدا في صدور المصريين ومن علي أرض ميدان التحرير والذي شهد احتشاد الآلاف من المصريين أثناء ثورة1919 الذين جاءوا إلي الميدان وتظاهروا أمام ثكنات الجيش الإنجليزي والتي كانت تتواجد في المكان الذي بني عليه مبني جامعه الدول العربية ونجحت الحشود في إجبار المستعمر علي عودة سعد زغلول من المنفي ومنح مصر استقلالها الجزئي عام1922 وبدا العمل بالدستور عام.1923 والحقائق التاريخية تؤكد أنه لم يهدأ المصريون عن الثورة تباعا طوال فترة الاستعمار الانجليزي وكانت قاعدة انطلاقهم دوما هي أرض ميدان التحرير فتارة يطالبون بإلغاء معاهدة1936, وأخري للمطالبة بسقوط الملك فاروق وضرورة تخليه عن العرش بعدما ثبت للمصريين مدي ظلمه وفساده وهي نفسها المظاهرات التي لعب الميدان بها دورا هاما في المظاهرات المؤيدة لثورة يوليو1952 وفي انتفاضة الطلبة بعد هزيمة1967 والتي طالبت من عبد الناصر بكشف حقيقة الأسباب التي أدت إلي النكسة ومعاقبة المقصرين, تلاها مظاهرات يناير عام1972 والتي قادها طلبة الجامعات لمطالبة الرئيس السادات بسرعة تجاوز عام الضباب وتجهيز الجيش وخوض حرب تحرير سيناء من قبضة إسرائيل, وهو ما تحقق في أكتوبر1973 والتي احتشد المصريين بعدها في الميدان للاحتفال بالعبور العظيم, وهناك أيضا مظاهرات18 و19 يناير1977 والتي انطلقت من ميدان التحرير لتعم غالبية مدن مصر احتجاجا علي رفع أسعار بعض السلع وتدهور أوضاع الاقتصاد المصري, فما كان أمام السادات من سبيل إلا الرضوخ لمطالب الثوار والتراجع عن قرارات رفع الأسعار لامتصاص غضبهم. ويشير أستاذ التاريخ المعاصر إلي أن السنوات الثلاثين الماضية شهد خلالها ميدان التحرير الكثير من التظاهرات والاحتجاجات بعضها مثل: حالة التعاطف المصري مع القضايا العربية كما حدث في أثناء الغزو الأمريكي للعراق والهجمات الصهيونية علي جنوب لبنان والأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة, إلي جانب مظاهرات أخري احتجاجا علي أوضاع معيشية شهدتها مصر قامت بها حركات شعبية مثل:6 أبريل وكفاية إلي أن جاءت ثورة25 يناير بكل ما شهدته من تضحيات لأبناء الشعب المصري إلي أن تحقق لهم ما أرادوا بإسقاط النظام وكتابة صفحة جديدة في تاريخ مصر العظيم. ويشير أستاذ التاريخ المعاصر إلي مفارقة قدرية غريبة علي أرض الميدان قد لا يلحظها البعض فميدان التحرير رمز الثورة المصرية صمم وفقا لعقلية مهندس نشأ وترعرع في أحضان الثورة الفرنسية و تزين أرجاءه ثلاثة تماثيل لشخصيات عظيمة تحمل بداخلها روح الثورة والتحرر بداية من تمثال الزعيم الوطني عمر مكرم أشهر ثائر في تاريخ مصر والذي قاد أول ثورة شعبية في تاريخ مصر المعاصر وبمقتضاها تم خلع الوالي العثماني خورشيد من الحكم وتولية محمد علي باشا مقاليد الأمور ومعه استعادت مصر بريقها كدولة. وهناك تمثال سيمون بوليفار الذي يقف كحارس أمين علي مدخل الميدان من ناحية حي جاردن سيتي وبوليفار لمن لا يعرف أحد أشهر الثوار في تاريخ العالم ويرجع إليه الفضل في تحرر غالبيه شعوب أمريكا الجنوبية( كولومبيا- فنزويلا- إكوادور- بيرو- بوليفيا) من قبضة الاستعمار الأسباني مطلع القرن التاسع عشر وتوفي عام1830 م. وأيضا هناك تمثال عبد المنعم رياض وهو اسم الشهيد رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية بعد حرب1967, والذي رفض الهزيمة وشرع مع بقية رجال القوات المسلحة إلي إعادة بناء الجيش المصري من جديد, إلا أنه استشهد علي الجبهة وقت حرب الاستنزاف في مارس1968 وشيع جنازته الملايين يتقدمهم الرئيس عبد الناصر في جنازة رسميه مهيبة لا تزال جنبات ميدان التحرير تتذكرها إلي الآن. اترك د. عبد الوهاب بكر وانتقل بين جنبات ميدان التحرير فاشتم رائحة الثورة التي اشتعلت بين أرجائه وهتافات الثوار وحكاياتهم ومطالبة البعض منهم بأن يتحول اسم الميدان إلي ساحة الشهداء تكريما لأبناء مصر ممن ضحوا بأرواحهم من أجل مصر, وهو ما يؤكده الشاعر الشاب حسين عثمان- أحد من شاركوا في ثورة25 يناير- مبررا ذلك يمثل نوعا من التقدير من قبل الدولة لأبنائها إلي جانب ضرورة إقامة نصب تذكاري في قلب الميدان يدون عليه أسماء الشهداء كي تكون بطولاتهم خالدة في أذهان الأجيال القادمة وهو ما يتفق عليه المحاسب محمود حسن الشافعي الذي يدعو الحكومة المصرية في الفترة المقبلة إلي أن تخلد ذكري هؤلاء الشهداء بإطلاق أسمائهم علي الشوارع والميادين ليس في القاهرة وحدها وإنما في سائر مدن مصر. إلا أن هناك أصواتا عدة من جانب هؤلاء الشباب أيضا تدعو إلي ضرورة الحفاظ علي اسم الميدان كما هو, وهو ما يدعو إليه إيهاب عنبة محام بدعوي أن العالم كله بات يعرف ميدان التحرير, وما قام به المصريين علي أرضه من بطولات وتغيير الاسم ربما يؤدي إلي تشتيت الذكري من أذهان الأجيال القادمة لاسيما وإننا كمصريين نرتكب جريمة كبري في حق تاريخنا بإقدامنا من حين لآخر علي تغيير أسماء الشوارع والميادين وهو ما يجب أن نتجنبه في الفترة المقبلة. المهندس احمد حسين من جانبه يري أن الميدان صار أشهر من حديقة هايد بارك في لندن, والتي تعرف كساحة عامة يعبر من خلالها الإنجليز عما يختلج في صدورهم بكل حرية وهو ما نطمح في أن يظل عليه ميدان التحرير, وذلك بأن تخصص الحكومة جزءا من الميدان يكون بمثابة هايد بارك لأي جماعة مصرية تقوم بالتظاهر وإعلان موقفها في السنوات القادمة دون أن تخل بالنظام وبحركة السير في الميدان بينما يدعو السيد عليوة وزارة التربية والتعليم بأن يكون الدرس الأول في جميع المدارس المصرية عقب استئناف الدراسة من جديد حول ميدان التحرير وثورة25 يناير وما حققه الشعب المصري خلالها من منجزات وما الذي نطمح إليه جميعا في الفترة المقبلة لتتقدم مصر.