يعرف كثير من الناس في مصر ودول عربية أخري مبدأ دستورية القوانين. وقد تابعوا تطبيقات شتي لهذا المبدأ من خلال النقاش العام حول مدي دستورية بعض القوانين, أي انسجامها مع نصوص في الدستور أو تعارضها مع هذه النصوص. . كما أصدرت المحكمة الدستورية العليا في مصر أحكاما عدة قضت بعدم دستورية قوانين في حالات كان بعضها مشهورا, ولا يزال. ومنها مثلا الحكم بعدم دستورية القانون الذي أجريت علي أساسه الانتخابات البرلمانية عام4891 ثم عام7891, مما أدي إلي حل المجلسين اللذين انتخبا في هذين العامين. ولكن مبدأ الدستورية, الذي ينصرف إلي مدي جدوي وجود الدستور في حد ذاته, ليس معروفا علي نطاق واسع. وقد حان الوقت لكي نعرفه ونستوعبه جيدا إذا أردنا دخول مرحلة جديدة فعلا في تاريخنا وبناء نظام سياسي دستوري حقا, وبالتالي ديمقراطي. فلا يمكن أن يكون النظام ديمقراطيا إلا إذا أقيم علي دستور يقيد السلطة السياسية ويخضعها للمساءلة والمحاسبة ويمكن المواطنين من تغييرها ويمنعها هي من تغيير إرادتهم أو تزييفها. فلا جدوي من دستور في غياب مبدأ الدستورية هذا, ولا دستورية في حالة دستور يطلق السلطة السياسية ويمكنها من تغيير ارادة الشعب أو التلاعب بها, فتفقد هذه الإرادة صفتها التي لا يوجد مبدأ الدستورية إلا حين تكون هي مصدر تلك السلطة. والدستور الذي لا يقوم علي مبدأ الدستورية لا يكون دستورا من الناحية الفعلية, الأمر الذي قد يتيح أن نطلق عليه صفة تبدو غير مألوفة لفظا أو لغة ولكنها عميقة المعني وهي أنه دستور غير دستوري. وإذا كان القانون غير الدستوري محكوما عليه بالإلغاء في حال تطبيق مبدأ دستورية القوانين, فكذلك الحال بالنسبة إلي الدستور غير الدستوري عندما يتم إعمال مبدأ الدستورية. وهذا هو ما ينبغي أن يكون أساسا لبناء النظام السياسي الجديد في بلادنا إذا أريد له أن يكون جديدا حقا. فالمشكلة في دستور1791 ليست في بعض نصوصه أو كثير منها, بل في الأساس الذي قام عليه والفلسفة التي تحكمه. فقد تم تفصيل هذا الدستور علي مقاس نظام حكم فردي يدور حول رئيس الجمهورية ويرتبط برغباته وأوامره وتعليماته وحكمته, وكل ما عدا ذلك في هذا الدستور لغو لا قيمة له ولا جدوي منه, بما في ذلك النص علي أن الشعب هو مصدر السيادة. فلا سيادة لشعب إلا إذا كان قادرا علي مساءلة حاكمه ومحاسبته, ومتمكنا من أن يؤيده أو يعارضه, ومتمتعا بالحق في اختياره من عدمه, وفي التجديد له لمرة ثانية وأخيرة أو تغييره. ودستور هذا شأنه لا يمكن أن يكون مجديا لأن وجوده يتساوي مع غيابه. وليس هناك دليل علي ذلك أكثر من أن السلطة السياسية, التي يفترض في أي دستور حقيقي أن يقيدها, تستطيع أن تغير فيه وفق مشيئتها وأن تضيف إليه وتحذف منه حسب رغباتها. ولذلك لم تكن ثمة جدوي من النص علي تقييد المدي الزمني لرئاسة الدولة بفترتين اثنتين كحد أقصي في دستور1791 عند إصداره( المادة77 في صياغتها الأولي). فما أسهل تعديل أي نص في دستور لا يقوم علي مبدأ الدستورية, بل علي مبدأ أن الحاكم فوق الدستور والشعب, بل فوق الدولة نفسها. فلم يكن هناك أسهل من تعديل المادة77 في دستور1791 عندما أراد الحاكم ذلك عام.0891 تكفي عدة مناشدات مصنوعة سابقة التجهيز, وبيانات تؤكد أن المسيرة لم تنته( وهي لا تنتهي أبدا في ظل غياب مبدأ الدستورية). ولا مانع من بضع زغاريد تعبر بها نائبات في البرلمان عن فرحة الشعب اللامتناهية إذ قبل رئيسه أن يعطف عليه ويتفضل بالبقاء في السلطة بلا نهاية. وقد حدث مثل ذلك في الجزائر عام8002, إذ تم تعديل المادة47 في دستورها لكي تسمح بإعادة ترشيح الرئيس وانتخابه بدون حد أقصي. ولولا الثورتان التونسية والمصرية, لحدث ذلك أيضا في اليمن التي كان برلمانها قد أقر من حيث المبدأ في نهاية العام الماضي تعديل المادة211 من دستورها للغرض نفسه تمهيدا للمصادقة عليه قبل أول مارس. ولكن الإنذار الذي وجهه شباب مصر وتونس لنظم الحكم في دول عربية أخري بدأت شعوبها بدورها في الاستيقاظ أدي إلي صرف النظر عن هذا التعديل في اليمن. غير أن العودة إليه تظل واردة نظريا إذا هدأت الأوضاع. ويعني ذلك أن الدستور غير الدستوري لا قيمة له ولا جدوي منه في غياب مبدأ الدستورية. ولا يمكن أن تكون ثورة52 يناير مؤدية إلي مصر جديدة حقا إلا بإصدار دستور جديد يقوم علي مبدأ الدستورية, الذي يقيد السلطة السياسية ويضع لها حدودا صارمة ويجعلها في الوقت نفسه أكثر فاعلية وكفاءة وقدرة علي الإنجاز. كما يوفر لها المشروعية أيضا, وذلك من خلال ترتيبات مؤسسية تضع قيودا علي ممارسة سلطة الدولة وتحدد استخداماتها المشروعة والأخري غير المشروعة وتضمن مراقبتها ومحاسبتها. ولأن أي ترتيبات مؤسسية وإجرائية لا تقدم ضمانا كافيا أو نهائيا لاحترام مبدأ الدستورية, حتي بعد إصدار دستور جديد يقوم علي هذا المبدأ وينطلق منه ويقيد السلطة السياسية ويجسد مبدأ السيادة للشعب, فينبغي أن تكون المشاركة الشعبية الواسعة في ثورة52 يناير مدخلا للضمان الذي لا يعلي عليه وهو استعداد الناس لحماية الدستور حين يكون نابعا منهم. ولعل احدي اكثر ظواهر ثورة52 يناير إيجابية ذلك الاهتمام الشعبي غير المسبوق بالدستور والجدل حوله. ويمكن البناء علي هذه الظاهرة لتطويرها باتجاه وعي عام بحماية الدستور الجديد الذي ينبغي إصداره في أقرب وقت علي أساس مبدأ الدستورية, بحيث يصبح الشعب هو مصدر السيادة نصا وعملا للمرة الأولي في تاريخنا. ويتطلب ذلك, حال التوجه لإصدار دستور جديد, تحقيق أوسع مشاركة شعبية بشأنه. وقد نحتاج, والحال هكذا, إلي التفكير في طريقة جديدة لإصدار هذا الدستور تتيح المشاركة الواسعة التي قد لا يمكن ضمانها بدون صيغة لإقامة لجان استماع علي أوسع نطاق في مختلف أنحاء البلاد, لكي يحس المصريون جميعهم بأنهم شركاء في تأسيس مرحلة جديدة حقا وفي إعداد الدستور الذي يتوجب عليهم بعد ذلك حمايته من أي محاولات للعبث به. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد