وأواصل الحديث عن نتائج السياسات الكارثية للحزب الوطني: سادسا: تدمير معني الدولة المدنية الحديثة ولوازمها المقترنة بتداول السلطة وحرية تكوين الأحزاب وإصدار الصحف ووضع القيود المستحيلة لانتخابات الرئاسة. هكذا, أصبح الدكتور أحمد فتحي سرور رئيسا, راسخا متكررا, لمجلس شعب قائم علي التزوير, وتجاهل القانون أو لي عنقه بإعلان أن المجلس اسيد قرارهب وظل احتكار السلطة صاحبة القرار مقصورا علي الأغلبية الساحقة المنتسبة إلي الحزب الوطني, كما ظل السيد صفوت الشريف أمينا عاما للحزب ورئيسا لمجلس الشوري ورئيسا للجنة إقرار الأحزاب الجديدة, فلم تقبل لجنة تشكيل الأحزاب إلا القليل النادر من الأحزاب المعارضة التي توهمت إمكان تدجينها, وكانت النتيجة تعديل وصياغة مواد في الدستور, كانت بمثابة فضيحة ووصمة عار لترزية القوانين الذين وضعوها وكل ذلك في موازاة الصمت عن ما يحدث للمدافعين عن لوازم الدولة المدنية الحديثة تداول السلطة, التعددية الحزبية الحقة, الممارسة الحزبية النزيهة, حقوق المواطنة وحقوق الإنسان في آن وهو الأمر الذي أدي إلي مطاردة أصحاب الفكر الحر, والسكوت المتواطئ, بالصمت والسلبية, أمام القضايا التي رفعها دعاة الدولة الدينية الذين اخترقوا القضاء, ونجحوا في إصدار أحكام ضد أحرار الفكر من دعاة الدولة المدنية, وذلك في دولة يدعي حزبها الحاكم أنه حزب مدني, ويقيم دولة مدنية, رغم أنه ظل ينافق قوي الإسلام السياسي, ويزايد عليها, بشعارات منافقة. سابعا: اقترن التمييز الطبقي بين أغلبية الشعب المحروم من حقوقه الإنسانية والشرائح الاجتماعية الحاكمة بالتمييز الديني الذي ابتدأ منذ أن تحالف السادات مع جماعات الإسلام السياسي, بوصفه االرئيس المؤمنب الذي يدعو إلي دولة االعلم والإيمان, ناسيا االعلمب في سبيل إيمان شكلي لإرضاء حلفائه من تيارات الإسلام السياسي, معتمدا تأويلات دينية مغلوطة لتأكيد وجوب طاعة أولي الأمر, وتطابق القوانين مع أحكام الشريعة, وذلك علي نحو أدي إلي تديين الدولة, فنشأ الاحتقان الطائفي, بعد أن أسلم السادات مفاتيح الجامعة للإخوان المسلمين, وسمح لهم بنشر أفكارهم الدينية المعادية لمبدأ المواطنة, علي امتداد الوطن, فانتشروا إنتشار النار في الهشيم علي امتداد المدن الصغيرة والقري, متحالفين مع خطباء مساجد ووعاظ زوايا, مارسوا تشويه صورة الإسلام في عقول أغلبية محرومة من التعليم السليم, والثقافة التنويرية, والرعاية الصحية أو الاجتماعية, في موازاة أزمات اقتصادية طاحنة ساعدت تيارات الإسلام السياسي علي إشاعة ثقافة التخلف والتعصب في آن وكانت النتيجة تخلق الاحتقان الطائفي وتفاقمه, وتزايد تجاهل شعار1919 الدين لله والوطن للجميع وتوالت الفتن الطائفية من قبل أحداث الزواية الحمراء, ولم تتوقف في زمن الرئيس السابق الذي سمح للحزب الوطني أن يمارس سياسة التديين القائمة علي النفاق الديني والمنفعة السياسية والنهب لأموال المطحونين من المعذبين في الأرض, أولئك الذين وجدوا عزاء في ما تشيعه الأجهزة الإيديولوجية لجماعات الإسلام السياسي من أن الإسلام هو الحل والدولة الدينية هي الخلاص وكان ذلك في موازاة تكفير دعاة التنوير وأفكار الدولة المدنية, وذلك في غيبوبة وسائل الإعلام الحكومي التي تحولت إلي أجهزة عاجزة, في موازاة حزب وحكومة يفتقدان القدرة علي فهم ما يجري, يوما بعد يوم. ثامنا: تشويه الثقافة المصرية, في معناها الشامل الذي يعني التثقيف الملازم للوعي الاجتماعي في انفتاحه علي العالم وتقبله للحوار وقبول المختلف وتبني ثقافة التقدم, فسادت ثقافة التخلف التي ضمت ثقافة الإذعان السياسي والقبول بالأمر الواقع واحتمال الظلم والاستكانة له, فضلا عن التعصب للرأي الواحد, وتقديس الحاكم المرتبط بالنفاق والكذب فضلا عن التدين الشكلي, وسري التراتب الاجتماعي إلي الثقافة فجنحت إلي النخبوية, وتجاهلت الفكر الشاب, خصوصا الواعد منه بأدوات اتصاله الحديثة, ذلك علي الرغم من أن بذور الثورة كانت تتخمر في وعي الفكر الشاب, وتظهر علاماتها علي شاشات الكمبيوتر الذي لم يقرأه أحد, ولم تصل رسائله إلي أولي الأمر إلي أن هبت رياح الثورة في الخامس والعشرين من يناير, بعد مقدمات لم ينتبه إليها أحد, ورسائلها لم يعرها انتباها أولو الأمر الذين ادعوا أنهم حكومة القرية الذكية التي تحولت إلي اسم بلا مسمي ولا أنكر شخصيا مسئوليتي في هذا الجانب, وأبادر إلي لوم نفسي علي إغفالها, وعدم الانتباه إلي هذا الشباب الغاضب ولكن عذري أنني كنت أتبني أفكاره مع قلة وطنية في ما كتبناه من مقالات أو ما أعلنا عنه في حواراتنا لكن علينا الاعتراف بأن فكر هذا الشباب الذي فجر الثورة الوطنية كان أكثر جذرية من فكرنا, وحركته أسرع من حركتنا, وجذريته الحدية أكثر فاعلية في نتائجها العملية من رفضنا الذي لم يخل من نزوع إصلاحي, نحن الذين جاوزنا الخامسة والستين من أعمارنا. تاسعا: يضاف إلي مسئولية الأجهزة الثقافية للدولة مسئولية الفساد الأخلاقي الذي انتقل من أعلي القمة إلي أدناها, فكان وجها فاعلا ومتفاعلا مع أخلاق التخلف التي أصبحت سائدة بفعل عوامل عديدة, شجعت عليها الأجهزة السياسية والإيديولوجية للدولة التسلطية التي تحكم باسم الحزب الوطني, أو يحكم الحزب الوطني باسمها بلا فارق هكذا نشأت أخلاق العنف في سلوك المواطنين, تلك التي هي نوع من الدفاع عن النفس في مواجهة أعداء محتملين في كل وقت, خصوصا بعد غياب الشعور بالأمان ولا تفارق أخلاق العنف النوازع السلوكية التي تنطوي علي رغبة الانتقام من الظالمين الذين أسقطت رغبة التدمير صورهم حتي علي الأبرياء من أبناء الشرائح المستورة من الطبقة الوسطي, فضلا عن العليا وهي رغبة تجلت, ولا تزال, في نزوع تدميري في التعامل مع كل ما ينتمي إلي الدولة, سواء علي مستوي المباني الحكومية أو المرافق العامة أو المواصلات التي لم يشعر الفقراء المحرومون من كل شيء أنها ملكهم قط, بل ملك أعدائهم. ويتصل بأخلاق العنف ظاهرة المقتولين القتلة وهي تسمية استعيرها من شعر صلاح عبد الصبور وهي نتيجة أن القمع الواقع علي المواطنين معد, وينعكس من المقموع علي غيره المساوي له أو الأدني, كما يحدث عندما يقمع الرئيس المرءوس, فيمارس المرءوس القمع الذي وقع عليه علي من هو أدني منه, أو يمارس الأب المقموع في العمل, أو الأم المقموعة من الأب, القمع الواقع عليهما مع الأبناء, وهكذا فيما يجعل المقتول قاتلا, أو المقموع قامعا إلي ما لا نهاية وأوضح ما تكون هذه الظاهرة السلوكية في حوار المثقفين الذين ما أسرع ما يتحولون إلي إخوة أعداء, إذا اختلف أحدهم مع غيره عاداه, وأطلق عليه ما يفيض من انفعال علي لسانه دون ترو, فتتكاثر الاتهامات بينهم والخلافات, رغم دعواهم بأنهم من دعاة حق الاختلاف وديمقراطية الحوار, ولكن الديمقراطية كالحوار سلوك وأخلاق وثقافة لا تعرفها المجتمعات المقموعة بأمثال الحزب الوطني وحكوماته. ولا تتباعد عن هذه الظاهرة الأخلاقية الثقافية ما يلازمها من اختلاط القيم, فأصبح الكذاب صادقا, والسارق أمينا, والصغير كبيرا, واللص ناهب ثروات الشعب محسنا فاعلا للخير, والجاهل عالما, والصغير كبيرا, واللاأديب أديبا, والخائن وطنيا, وكلها متناقضات لا تنفصل عن ازدواج الشخصية, كأننا نري تجليات كثيرة لأمثال دكتور جيكل ومستر هايد, فأصبحت الأقوال نقيض الأفعال, والشعارات المرفوعة للتغطية علي الحقائق الموجعة كثيرة, والوعود نقيض النوايا, وقد أدي كل ذلك وغيره إلي التكاسل الذي يخلو من الحماس للعمل في كل مجالاته, وتأخير عمل اليوم إلي الغد, كالحكومة التي يومها بسنة ولم يخل التكاسل من افتقاد الرغبة في التثقيف الذاتي, سواء عند موظفي الحكومة أو العاملين في الدولة, خصوصا في وطن لم تعد فيه سلطة تحترم المثقفين وتري فيهم قول فاعلة واقترن التكاسل بغياب الإحساس بالعدل أو وجود نظام للثواب والعقاب فكله عند العرب صابون أما التواكل فقد اقترن بالقدرية, والهرب إلي الدين, حيث عطف الله يعوض عن ظلم الظالمين, وحيث انتظار غوثه ووعود جنته من زهور مضيئة في ظلمة المعذبين في الأرض, فاستغل المتاجرون بالدين الفرصة, وخلطوا الدين السمح والداعية إلي العدل والإحسان ورعاية ذوي القربي بما ليس منه, فخلطوا المعاني النبيلة للجهاد باللوازم الخسيسة للإرهاب وكان ذلك في موازاة أخلاق التمييز التي ترفع من شأن الرجل علي المرأة المتهمة في عموم جنسها, والأكبر في السن علي الأصغر سنا, والمسلم علي غير المسلم والعكس صحيح,. عاشرا: تجميد حركة النخب الحاكمة وإيقاف حراكها الحيوي, ابتداء من رئيس الدولة الذي جاوز الثمانين من عمره, وظل يحكم لثلاثين عاما, مرورا بأركان الحزب الوطني, خصوصا قياداته التي جاوز أغلبها السبعين وعندما جاء الحرس الجديد الذي التف حول جمال مبارك, تزايد انحراف الحزب وتكاثرت جرائمه, وحدث زواج السلطة ورأس المال, فظل الحرس القديم مهيمنا بمتوسط أعماره التي تدور حول ما فوق الستين أو السبعين, وهي عدوي انتقلت منهم إلي رؤساء الأحزاب الذين يدور, أغلبهم, في المدار العمري نفسه وأعتقد أن ثورة الشباب التي تحولت إلي ثورة الشعب كله قد مست بلهبها هذا الجمود العمري للنخب السياسية التي شاخت, وأكد حتمية انتقال السلطة إلي الشباب, وضرورة التحول من حكم العواجيز بالمعني المادي والمعنوي إلي حكم الشباب صحيح أن هناك من يجاوز الخامسة والستين, أو حتي السبعين, غير أن فكره لا تفارقه حيوية الفكر الشاب وتجدده لكن علينا النظر إلي العالم من حولنا, ونتذكر أن قادة ثورة يوليو1952 كانوا في الثلاثينيات من عمرهم, وأن أغلب قادة العالم المتقدم, الآن, لم يجاوزوا الستين من العمر, فقد تولي توني بلير رئاسة الحكومة البريطانية, وهو في الأربعينيات, وأوباما رئيس أكبر وأهم دولة في العالم بينه وبين الستين سنوات, وقل الأمر نفسه, تقريبا, علي رئيس وزراء إنجلترا الحالي, وأعتقد, جازما, أن علي أبناء جيلي والجيل السابق عليه أن يتركوا الراية للأجيال الشابة التي يتحرك متوسطها العمري ما بين الثلاثينيات والخمسينيات, فقد آن الأوان أن نترك الصدارة لهذه الأجيال, وأن تكتفي الأجيال التي ننتسب إليها بالكتابة أو المشورة, أما التصدي للقيادة, فقد أثبتت ثورة الخامس والعشرين من يناير أن القيادة لابد أن تتولاها أجيال شابة شريفة نزيهة, حريصة علي مصالح الشعب, منحازة إلي الفقراء, نظيفة اليد النظافة التي لم يعرفها أمثال أحمد عز الذي قاد الحزب الوطني إلي نهايته, عندما أدار أكبر حركة تزوير للانتخابات, عرفها التاريخ المصري الحديث, وقاد أبشع عمليات التربح التي ضاعفت ملياراته التي ينظر في شرعيتها القضاء الآن نريد شبابا نظيفا وطنيا مثل وائل غنيم وأمثاله الذين ضربوا لنا أروع أمثلة الفداء لوطنهم, في ثورة أضاءتها دماء أقرانهم التي حصدت أرواحهم رصاصات الغدر والخيانة الوطنية, مسجلة آخر جرائم الحزب الوطني التي قضت عليه تماما. ولذلك كله أصابني الغضب والاشمئزاز عندما اختلف معي بعض رموز الحزب الوطني في أول وآخر جلسة مجلس وزراء حضرتها, وقال في حماس سلطوي هذه حكومة الحزب الوطني, فقلت لنفسي سأجرم في حق نفسي وبلدي والشهداء الشباب الذي افتدوا الوطن بأرواحهم لو بقيت في هذه الحكومة, أو حضرت لها مجلسا آخر. المزيد من مقالات جابر عصفور