في جمعة الغضب في الثامن والعشرين من يناير, سرت مع آلاف المصريين في المظاهرات التي جابت منطقتي الدقي والمهندسين, ووقفت طويلا في ميدان الجلاء مع جموع المتظاهرين الذين تلقوا الكثير من قذائف القنابل المسيلة للدموع حتي الرابعة عصرا, وإلي أن علمنا أن الشرطة قررت الانسحاب وأن الجيش سيقوم بفرض حظر التجوال وسوف ينتشر في الميادين وأمام المواقع المهمة, في ذلك اليوم كان أحد الشعارات التي يرددها الشباب لا برادعي ولا إخوان.. دول شباب مصر التعبان, وفي مرات أخري قيل شباب مصر الجدعان. كان الشعار بسيطا وحاسما ويعني أن المتظاهرين لا علاقة لهم بالإخوان التي طالما استخدموا كفزاعة للغرب حتي لا يضغط علي النظام السابق للقيام بإصلاحات ديمقراطية وانتخابات نزيهة, وكان يعني أيضا أن هذا الشباب مستقل عن الحركة الوطنية للتغيير التي شكلها قبل نحو عام د.محمد البرادعي مع عدد من الناشطين وأساتذة الجامعة الداعين للتغيير الجذري في البلاد. وكان يعني ثالثا أن هذا الشباب هم قوة جديدة تعلن عن نفسها وتقود المظاهرات بعد أن خططت لذلك عبر الشبكات الاجتماعية وسبل التواصل الإليكتروني الجديد. كان معروفا أيضا ومنذ الثلاثاء25 يناير الذي شهد أولي المظاهرات في ميدان التحرير وميادين أخري, أن الإخوان قرروا ألا ينضموا إلي هذه المظاهرات لأنها تنظم من أناس غير ذوي خبرة سياسية وغير معروف من وراءهم ولا أفكارهم, أو بعبارة أخري أن الإخوان لن يشاركوا في عمل ليسوا هم صانعيه وأبطاله. لكن الحق يقال أن بعضا من شباب الإخوان كان موجودا في المظاهرات, ربما للمشاركة الجادة وربما أيضا لمجرد استطلاع الموقف والتعرف علي ما يجري في الشارع وحسب, وربما ثالثا كتعبير عن انقسام جيلي في داخل الجماعة, وقد حدث أن تقابلت علي غير موعد سابق في خضم التظاهر وارتفاع الحناجر وتلقي القنابل المسيلة للدموع والصديق ضياء رشوان وسط ميدان الجلاء وتعرف علينا شابان قالا أنها من جماعة الإخوان وأنهما لا يشاركان في المظاهرات ولكنهما معجبان بما يحدث, وأنهما وجدا المظاهرات أمرا منظما ومحترفا لم يكن متوقعا علي أي حل, وسينقلان هذا الانطباع الي القيادات حسب ما قالا. غير أن الأمور تطورت لاحقا علي نحو مختلف, فقد أدرك الجميع أن ما يشهده الشارع المصري ليس مجرد مظاهرة أو احتجاج عابر وكفي, بل هو مقدمة لحدث كبير لا يجب علي أحد أن يفوت علي نفسه فرصة المشاركة في صنع حدث كبير سوف يهز مصر وما حولها, وبحس سياسي عميق أدرك الجميع أيضا أن انسحاب الشرطة بالطريقة التي حدثت هو بداية الانتصار, وأن المطلوب هو قدر من الصمود وقدر من التكاتف الشعبي, وفي ظل هذه الأجواء التي فرضت نفسها علي الجميع, سواء كانوا منظمين منذ عقود كما هو الحال مع جماعة الاخوان, أو في طور التنظيم كما هو الحال مع مجموعات الشباب الثائر, قررت الجماعة اللحاق بالركب الثوري, وانضم أعضاء لها في المظاهرات في أكثر من مدينة خاصة الإسكندرية والإسماعيلية, ورابط آخرون في ميدان التحرير, مشاركين في صنع الحدث الكبير. وأيا كانت دوافع قرار الإخوان بالمشاركة وحساباته السياسية الآنية والبعيدة, فقد انتجت المعايشة الثورية في ميدان التحرير نوعا من القبول المتبادل بين الجماعة والقوي السياسية الأخري, ووفقا لما سمعته من أشخاص كثيرين ممن ساهموا في صنع الثورة, وما لاحظته في الميدان طوال اسبوعين, هناك اعتراف بأن دور أعضاءالإخوان في الدفاع عن الاعتصام في ميدان التحرير يوم الاربعاء الدامي2 فبراير الحالي والذي بات يعرف بموقعة الجمل والحصان, وفي مواجهة الجحافل الهمجية التي أحاطت بالميدان وألقت الطوب وقنابل المولوتوف علي المتظاهرين لاسيما في المنطقة الفاصلة بين ميدان التحرير وميدان عبد المنعم رياض, أنه كان دورا حاسما, وأن أعضاء الجماعة قاوموا ببسالة وتعرض الكثير منهم لإصابات بالغة, ومع ذلك فقد ظلوا مع باقي المعتصمين في أرض الميدان يحمونه منطقة مستقلة تشع بالثورة إلي أن تحقق هدفها الأكبر وهو رحيل الرئيس مبارك, وبدء عملية تغيير في بعض أسس النظام, تمهيدا لتغييره كلية عبر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة في غضون ستة أشهر. هذا الاعتراف بالدور المهم لأعضاء الجماعة في الدفاع عن الميدان وعن الثورة يقابله حقيقة أن هذه الثورة وهذا هو سر تألقها وتاريخها هي ثورة بلا قائد محدد, فجميع من شاركوا فيها هم قادتها وهم ثوارها, وهم صانعوها, وحتي الذين قبعوا في البيوت أو في المدن والقري البعيدة أو استمروا يديرون بعض المواقع الإنتاجية الحيوية, وكانوا يدعون الله تعالي أن ينصر الثورة وأن تحقق أهدافها, هم أيضا جزء عضوي منها, ولذا فإن أي محاولة بطريق مباشر أو غير مباشر تهدف إلي الإيحاء بأن فصيلا بعينه قد دفع ثمنا أكبر, أو أن من حقه أن يحصل علي عائد أكبر من الآخرين, هو موقف لا أخلاقي ولا ثوري, وهو مبدأ أتصور أنه نابع من طبيعة الثورة ذاتها, وباعتبارها ثورة شعب بأسره علي من ظلموه واستبدوا به وتصوروا أنه شعب لم ينضج بعد ولا يستحق الحرية والكرامة الإنسانية. هذه المقدمة الطويلة نسبيا أتصور انها ضرورية لمناقشة الدافع الذي جعل الاحتفال بالانتصار, كما حدث يوم الجمعة الماضي, وكأنه استعراض قوة من قبل جماعة الإخوان المسلمين, وبمثابة رسالة بأن هذه الثورة ستقود البلاد حتما إلي ناحية بذاتها يعرف الجميع أنها ليست محل توافق من المجتمع ككل وذلك حتي قبل أي انتخابات وقبل أي ممارسة ديمقراطية وقبل الاحتكام للناس أنفسهم, وبمثابة رسالة أيضا بأن علي المصريين اليوم أن يقبلوا أطروحات الإخوان سواء ارتضوا أم لم يرتضوا, ولقد كان منع الناشط الشاب وائل غنيم من قول كلمة في الاحتفال بالانتصار, من قبل من وصفوا بأنهم حرس الشيخ يوسف القرضاوي, وكذلك الهتافات المشينة التي قيلت في حقه, بمثابة مؤشر أقل ما يوصف بأنه مثير للقلق الشديد علي مستوي الحريات المنتظر إن سادت نظرية فرض الأمور بقوة الأمر الواقع, وتم إقصاء المختلفين في الرأي والتوجه.وإذا كان الإخوان قد نفوا أنهم الذين دعوا الشيخ يوسف القرضاوي لإلقاء خطبة جمعة الانتصار وسط الحشود التي جاءت لتعبر عن تمسكها بالثورة وفرحها بما تم إنجازه وبما يجب أن ينجز لاحقا, فالثابت انهم استغلوا قدراتهم التنظيمية في حشد أعضائهم من جميع مدن الجمهورية للمشاركة في الحدث, وليفهم كل طرف ما يريد أن يفهمه. ومما لمسته من قريبين من صنع الثورة ومشاركين فيها ومستبشرين بها, فثمة قدر من القلق من هذا الحشد غير المسبوق, وقلق آخر من ألا تتاح فرصة للقوي السياسية والحزبية وأيضا المجموعات الشبابية الصاعدة لأن تشارك في صنع نظام سياسي جديد من خلال صناديق الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية, صحيح أن الإخوان قدموا قبل هذا الحشد رسائل لطمأنة كل فئات المجتمع بأنهم لن ينافسوا في الانتخابات البرلمانية بأكثر من ثلث المقاعد, وأنهم لن يقدموا مرشحا للرئاسة, وأنهم يؤمنون بالدولة المدنية وليست الدولة الدينية التي لايعرفها الاسلام حسب تأكيدات قيادات إخوانية, ثم بعد حشد جمعة الانتصار تحدثوا عن رفضهم للنموذج الإيراني وأنه غير قابل للتكرار في مصر, وما فهمه كثيرون أن النفي الأخير جاء بعد أن قارن كثيرون زيارة الشيخ القرضاوي وهي مجرد زيارة لا أكثر بعودة الإمام الخوميني الي إيران من منفاه الفرنسي بعد أن هرب الشاه تحت وقع ثورة الإيرانيين وانضمام الجيش لهم فبرابر.1979 ثم جاء الاعلان عن حزب الاخوان مفتوح لكل المصريين وبجانبه جماعة دعوية ليطرح اسئلة اكثر مما يبعث رسائل لطمأنة المصريين. هذا النفي يصطدم بالحقائق المعروفة في عالم السياسة, الذي لا يعترف أبدا بالضمانات القولية التي لا يمكن محاسبتها لاحقا, ولا يعترف أيضا بحسن النيات والكلمات المعسولة, ولكنه يعرف الأفعال وتوازن القوي, ويحكم علي الأشياء انطلاقا من الخبرات التاريخية المعروفة, وهي بدورها تثير الشكوك ومبعث قلق كبير لكل المصريين, ولعل تجربة الجزائر مع فوز جماعة الإنقاذ في الانتخابات نهاية1990, وما تبعها من عقد العنف والحرب الأهلية والقتل علي الهوية, كفيل بأن يثير القلق في نفوس كثير من المصريين أن تشهد بلادهم الناهضة أمرا مماثلا, والخوف كبير أن تكون الانتخابات البرلمانية المقبلة, مقدمة لدولة دينية ليست مدنية, لاسيما في ظل ضعف وهشاشة الأحزاب القائمة, وأن تصبح أول وأخر انتخابات برلمانية نزيهة تشهدها مصر الثورة, والخوف أكبر ألا تستغل الاحزاب السياسية والقوي الشبابية وتجمعات المعارضة والثورة الفرصة القائمة في توطيد علاقاتها بالناس وبالشارع وتجديد أطرها التنظيمية والفكرية وجذب الكثير من الأعضاء وحثهم علي المشاركة الواعية في صنع مصر جديدة تؤمن بالحرية والكرامة وحقوق الإنسان, وبديمقراطية متجددة غير قابلة للتراجع أو الاختفاء القسري. المزيد من مقالات د. حسن أبو طالب