في بحثنا السابق عن رؤية استراتيجية عربية( راجع مقالنا الماضي في82 اكتوبر0102), الذي خصصناه للمناقشة النقدية للمشروع السياسي الطموح الذي اقترحه الدكتور برهان غليون, والذي يتمثل في اقامة منظومة للأمن الجماعي الإقليمي يجمع بين الدول العربية وتركيا وإيران تساءلنا: هل هذا المشروع مجرد يوتوبيا, أم أنه يمكن في ظل ظروف مواتية معينة أن يتحول الي مشروع واقعي؟.. وهل يمكن حقا كما نادي صاحب المشروع تجاوز الايديولوجيات القومية العربية والتركية والإيرانية معا؟ لن نفصل هنا في الخطوات التي اقترحناها لتحويل اليوتوبيا الي مشروع واقعي, وهي القيام بنقد ذاتي عربي, وقراءة تغيرات النظام العالمي, وأخيرا صياغة رؤية استراتيجية عربية, ولكننا بدلا من ذلك نطرح للمناقشة مشكلة تحتاج الي بحث وهي ألا يمكن أولا اقامة وحدة أو اتحاد أيا كانت صورته بين الدول العربية, قبل التطلع الي اقامة منظومة للأمن الجماعي الإقليمي تضم إيران وتركيا؟ لا ننكر أن هذا الموضوع علي الأخص كان محلا لدراسات مراكز الأبحاث العربية والمفكرين العرب الذين ينتمون الي ايديولوجيات سياسية شتي, وإن كانوا جميعا لأسباب شتي يؤمنون بأهمية التوحد العربي, لأننا ببساطة في عصر التكتلات الإقليمية الكبري كالاتحاد الأوروبي والآسيان والنافتا, وانضمام الدول المفردة لأي من هذه التكتلات يساعد علي زيادة قوتها الاقتصادية, ويرفع من مستوي أدائها السياسي في مجال اتخاذ القرارات الاستراتيجية الكبري في التفاعلات الدولية المعقدة. ولم تقتصر المناقشات حول الوحدة علي مستوي المعالجات النظرية التي قامت بها مراكز الأبحاث العربية أو المفكرون الاستراتيجيون العرب, لأن موضوع الوحدة العربية شهد تطبيقا خلاقا وإن كانت اختلفت الآراء بصدد تقويمه تمثل في الوحدة المصرية السورية التي قامت علي أساسها الجمهورية العربية المتحدة عام.8591 واذا كانت هذه الوحدة انتهت للأسف الشديد بالانفصال بعد عامين فقط من قيامها, نتيجة مؤامرات الخارج وتناقضات الداخل السوري والمصري, فإنها ستظل علامة بارزة علي إمكان تحقيق المشروع لو تم في ضوء رؤية استراتيجية عربية بصيرة, توجهها إرادة سياسية عربية رشيدة تري فيه تحقيقا لمصالح الدول القطرية من جانب, وللمصلحة القومية العربية من جانب آخر. وقد طالعت باهتمام شديد تعليق أحد القراء المحترمين وهو الدكتور جمال عيسي علي مقالي الماضي عن الرؤية الاستراتيجية العربية. ووردت في التعليق ملاحظات غير لائقة وتجافي آداب الحوار, لأنه ادعي أن المؤتمرين ركزوا علي كرم الضيافة الإماراتي, بدلا من أن يكلفوا أنفسهم بالسؤال عن دولة الإمارات العربية التي تستضيفهم! وللرد علي هذه الملاحظات, نؤكد له أن أعضاء المنتدي غالبيتهم من الباحثين العرب المعروفين علي المستوي العربي والدولي, والذين سبق لهم أن حضروا عشرات المؤتمرات, وأسهموا فيها بأبحاثهم وابداعاتهم الفكرية, التي أضافت الكثير في مجال دراسة عديد من الموضوعات المهمة. وهم لم يكونوا بحاجة الي دراسة حالة دولة الإمارات العربية المتحدة من حيث نشأتها التاريخية أو وظائفها الإيجابية أو انجازاتها المبهرة, لأنه سبق لأغلبهم أن شارك بالفعل وهذا ما يجهله تماما السيد المعلق في دراسة متعمقة لدولة الإمارات العربية المتحدة في احدي الندوات المهمة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية منذ سنوات بعيدة, وفي هذا المؤتمر اعتبرت تجربة دولة الامارات العربية نموذجا ناجحا للتوحد العربي. ومن هنا لسنا في حاجة الي دروس السيد المعلق حول أهمية دراسة هذه التجربة الرائدة. غير أننا اذا ما تجاهلنا هذه الملاحظات الشكلية التي تتعلق أساسا بآداب الحوار فإن في تعليق الدكتور جمال عيسي ما يستحق البحث والمناقشة. والفكرة الجوهرية التي يطرحها, أن تجربة دولة الامارات يمكن أن تكون أفضل نموذج يحتذي به لقيام اتحاد عربي. وهنا بالذات نختلف مع هذه الفكرة اختلافات جوهرية لأسباب نظرية وواقعية. والواقع أن هذا الاقتراح يثير في ذهننا علي الفور الاستخدام الخاطئ والمعيب من قبل بعض الباحثين لفكرة المشابهة التاريخيةHistoricalanalogy والمشابهة التاريخية كما تعرفها المراجع الأكاديمية الرصينة هي محاولة بعض السياسيين والدبلوماسيين في تفسير بعض الظواهر, أو التنبؤ بمسار حدث راهن أو مستقبلي, مؤسسا علي وقائع أو أحداث حدثت في الماضي, وفي هذا السياق يستخدم الحدث الماضي باعتبارها مصدرا في حين أن الموقف الراهن أو المستقبل يعد هو هدف المشابهة. بعبارة أخري, ينحصر رأي الدكتور جمال عيسي في أن الدول العربية تستطيع أن تحتذي بنموذج دولة الامارات العربية المتحدة لكي تحقق الوحدة العربية. ما صحة هذه المقولة؟ نقرر بكل يقين علمي, أن المشابهة التاريخية هنا غير قابلة للتحقيق, لأسباب متعددة تاريخية وجيوبوليتيكية وسياسية واقتصادية وثقافية. غير أننا نبدأ المناقشة بتأكيد أن تجربة دولة الامارات كان من السهل تحقيقها لعدة أسباب, لعل أهمها علي الاطلاق التشابه الشديد في البنية الاجتماعية للامارات التي دخلت في اطار الدولة الواحدة, وهذه البنية الاجتماعية تتمثل في أن مجتمعات هذه الامارات تتسم بشيئين رئيسيين, أولهما أنها جميعا وبلا استثناء واحد مجتمعات قبلية, بمعني أن القبائل المتعددة في كل دولة هي الوحدة الاجتماعية الرئيسية وليس الطبقات أو الشرائح الاجتماعية, والمجتمع القبلي كما هو معروف في الدراسات الأنثروبولوجية يتسم بسمات خاصة للغاية تميزه عن المجتمعات الطبقية, حيث وحدة التحليل الأساسية هي الطبقة الاجتماعية وليست القبلية, بالاضافة الي أن المجتمع القبلي يقوم أساسا علي اعراف وتقاليد قديمة متوارثة مازالت توجه السلوك السياسي والسلوك الاجتماعي لكل من النخب السياسية الحاكمة والجماهير علي السواء. وهذا الوضع مازال مستمرا حتي الآن ومرشح لعدم التغير الجوهري في العقود المقبلة, بالرغم من مظاهر التحديث المتعددة التي شهدتها الامارات المتعددة التي دخلت في اطار الدولة الواحدة, وفي مقدمتها أبوظبي ودبي. والسبب الثاني هو أن الذي سهل الوحدة في تجربة دولة الامارات هو عدد السكان المحدود للغاية في كل امارة, بالإضافة الي أهم عامل وهو ظهور النفط في هذه الامارات, وما ترتب عليه من ثروة هائلة سهلت التعاون السياسي بينها دون صراعات حادة حول الموارد الاقتصادية, وذلك بالرغم من وجود امارات بالغة الثراء وامارات فقيرة في مواردها, غير أن الدستور الاتحادي استطاع بحصافة شديدة معالجة هذه الفجوات الاقتصادية والتباينات الواضحة في الثروة, من خلال المساعدات الاقتصادية التي تمنحها الدولة للامارات الفقيرة حفظا للتوازن المطلوب. ومن ناحية أخري, يمكن القول إن التاريخ الاجتماعي في الامارات متشابه, فأغلبها كان خاضعا لوصاية أجنبية تم انهاؤها, واستقلت الامارات في سياق سياسي سمح للدول الغربية بأن تحصل علي حاجتها من النفط الاماراتي وفقا لاتفاقيات مجزية لكل الأطراف. وأهم من ذلك كله, ان مسائل الأمن القومي بحكم العلاقات الوثيقة بين الدول الغربيةوالامارات أصبحت مضمونة في اطار استراتيجي غربي عربي متفق عليه سلفا, ووفقا لآليات متعددة. واذا أضفنا الي كل ذلك أن الاماراتالداخلة في الاتحاد كلها متجاورة ولا يفصل بينها وبين الأخري بحار أو محيطات, بل انها من وجهة النظر الجيوبوليتيكية تكون اقليما واحدا متجانسا لأدركنا سهولة انجاز مشروع الاتحاد. وهذا الوضع يختلف عن دول المشرق ودول المغرب, التي لا تنتمي الي اقليم جغرافي واحد, مما يجعل من مسألة الاتحاد أو الوحدة أصعب بكثير من حالة دولة الامارات العربية. غير أنه أهم من هذا الاعتبار أن كل دولة من دول المشرق لها تاريخ اجتماعي مختلف تماما عن تاريخ الدول الأخري. خذ مثلا حالة مصر بعمقها التاريخي المعروف, حيث أنشأ فيها محمد علي أول دولة عربية حديثة, وعبر الزمن وفي سياق التحديث الصناعي تشكلت في مصر طبقات اجتماعية متعددة, ونشأت فيها طبقة عاملة دخلت في صراعات شتي مع أصحاب رءوس الأموال, كما أنه في القطاع الزراعي كان هناك وضع شبه اقطاعي جعل ملكية الأرض في غالبيتها في يد عدد محدود من الاقطاعيين, في حين أن ملايين المزارعين كانوا مجرد أجراء يعملون لمصلحتهم, بالاضافة الي عدد محدود من ذوي الملكيات الصغيرة. هذا الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لا يتشابه مع الوضع في كل من فلسطين ولبنان وسوريا والعراق, فكل بلد من هذه البلاد المشرقية له تاريخ اجتماعي مختلف يجعل الوحدة مسألة بالغة الصعوبة لاختلاف تكوين النخب السياسية الحاكمة وتنوع المجتمعات. ونفس العوامل نجدها في المغرب العربي, فهناك فروق بارزة بين الجزائر التي خضعت للاستعمار الاستيطاني الغربي لمدة تقارب081 عاما ولم تتحرر إلا من خلال حرب التحرير الجزائرية البطولية, وبين المغرب التي تحكمها عائلة ملكية منذ قرون متعددة, وحيث يعتبر ملك المغرب أميرا للمؤمنين, أما تونس فقد تحولت الي جمهورية بعد الاستقلال وكذلك ليبيا بعد الثورة. هذه الفروق الجوهرية بين دول المشرق ودول المغرب تجعل من مشروع الوحدة العربية الفيدرالية مشروعا يكاد أن يكون مستحيل التطبيق, وذلك لأن النخب السياسية الحاكمة في هذه الدول لن تتنازل بسهولة عن وضعها السياسي المتميز, كما أن أي حاكم عربي مفرد أيا كانت طريقة تعيينه أو انتخابه لن يتنازل بسهولة عن بعض سلطاته المطلقة, بالاضافة الي الفروق البارزة الأخري. قصاري ما يطمح إليه المفكرون العرب القوميون اليوم هو البدء في إنشاء سوق عربية مشتركة, علي أساس أن التوحد الاقتصادي قد يؤدي علي المدي الطويل قياسا علي تجربة الاتحاد الأوروبي الي تنسيق سياسي عربي يحتاج في تحديد طبيعته الي ابداع فكري عربي, بالاضافة الي ارادة سياسية حاسمة.وهكذا يمكن القول إن المشابهة التاريخية بين تجربة دولة الاماراتالمتحدة وباقي الدول العربية لا أساس لها, لأن الأوضاع التاريخية والسياسية والاقتصادية والثقافية السائدة لا تساعد علي تحقيق الوحدة العربية الكاملة.