بحكمة سياسية وحنكة دبلوماسية.. تعكسان عمق الرؤية المصرية الاستراتيجية والواقعية للأوضاع العربية والمتغيرات الإقليمية والدولية، أزال الرئيس حسنى مبارك فى مداخلته المهمة خلال اجتماع قمة «سرت» العربية -الأسبوع الماضى- الالتباس والتناقض وضبط إيقاع الحماس المتسّرع الذى تبدّى فى مناقشة القضيتين الأساسيتين المدرجتين على جدول أعمال القمة بشأن تطوير منظومة العمل العربى المشترك، واقتراح إقامة رابطة دول الجوار الجغرافى العربى فى كل من آسيا وأفريقيا وأوروبا. الرؤية المصرية التى عبّرت عنها مداخلة الرئيس مبارك انعكست بوضوح على قرارات القمة وحسبما قرّر القادة العرب تكليف الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بإعادة صياغة مشروع البروتوكول الخاص بتطوير الجامعة، بينما قرروا تشكيل لجنة وزارية لدراسة مشروع رابطة الجوار ومطالبة الدول الأعضاء باستمرار تزويد الأمانة العامة بأفكارها فى هذا الشأن. إن إقامة رابطة الجوار العربى والتى اقترحها السيد عمرو موسى أمين عام الجامعة، وإن كانت فكرتها محاكاة لتجارب إقليمية أخرى وحسبما قال أمام القمة: إنها لم تنبع من فراغ ولا هى خاصة بتلك المنطقة، ولكنها وليدة متابعة ومشاهدة نقاش وتجارب خاضتها مناطق أخرى فى العالم، وهو أمر لا خلاف عليه. إلا أن فكرة هذه الرابطة والتى وصفها عمرو موسى بأنها «وليدة احتياج ومصلحة واضحة مباشرة» تبقى مثار خلاف وتباين فى وجهات النظر، لكن المؤكد أن توقيت طرح الفكرة وإقامة الرابطة ليس مناسبا على الإطلاق، وعلى العكس تماما من رأى الأمين العام بأنه «آن الأوان لكى نتحرك فى إطارها». وإذا كان السيد عمرو موسى قد استدرك وأقرّ بوجود خلافات فى الرأى بشأن «التوقيت» وهو ما يتناقض مع قوله «آن الأوان»، ثم بإقراره بوجود خلافات فى وجهات النظر العربية بشأن موضوع الرابطة فى حد ذاته أو بشأن الدول المقترح مشاركتها أو بسبب ما وصفها بمخاوف أخرى. فإنه يكون قد قدّم بنفسه مسّوغات إرجاء النظر فى اقتراحه بشأن الرابطة إلى وقت لاحق.. قريب أو بعيد، لكنه يبقى رهنا بتوافر ظروف سياسية صحية إقليمية ثم عربية فى المقام الأول تكون مواتية لطرح فكرة الرابطة وتنفيذها بنجاح. والحقيقة أنه رغم تفّهم مبررات ودواعى اقتراح رابطة الجوار من الناحية النظرية، والتى تستهدف فى الأساس إحداث توازن قوى استراتيجى فى منطقة الشرق الأوسط خاصة مع تزايد نمو وتصاعد دور كل من إيران وتركيا فى التأثير على المجريات السياسية فى الإقليم، كما لا يخفى أيضا هدف محاولة تحقيق توازن استراتيجى إقليمى فى مواجهة إسرائيل. إلا أنه تبقى ثمة مخاوف ومحاذير- خاصة فى الوقت الراهن- تحول دون إقامة هذه الرابطة وتجعل مهمة نجاحها بالغة الصعوبة والتعقيد، لعل أولها وأهمها تعارض وتناقض المصالح بين الدول العربية ذاتها، ومن ثم تباين تحالفات وخلافات كل منها مع دول الجوار وتحديدا إيران. ومع ملاحظة أن مشروع الرابطة التى تضم إيران يستبعد إسرائيل من عضويتها رغم موقعها الجغرافى، وهو ما يتعارض مع «سياسة الجوار» ذاتها. فإن إقامة الرابطة فى هذا التوقيت وفى ضوء الأوضاع الإقليمية شديدة التعقيد سوف يزيد الصراع فى الشرق الأوسط اشتعالا. أما أهم محاذير إقامة هذه الرابطة فى الوقت الحالى، فهى أن الدول العربية ذاتها تفتقد فيما بينها علاقات جوار طيبة، وتفتقد قبل ذلك وبعده موقفا موحدا مشتركا، بعد أن غلبت عليها النزاعات القُطرية (بضم القاف)، بينما غابت تماما النزعة القومية، وغابت معها وبالضرورة أية استراتيجية موحدة إزاء قضايا الأمة العربية ومشكلاتها وأزماتها القومية والقُطرية على حد سواء بداية من القضية الفلسطينية التى كانت ومازال مفترضا أنها لب الصراع العربى الإسرائيلى إلى ما جرى ويجرى فى العراق والسودان والصومال ولبنان! ولذا فإن الأولوية العربية الأكثر إلحاحا والأكثر ضرورة هى تطوير منظومة العمل العربى، أو ما أسماها العقيد القذافى «هيكلية جديدة» والذى يقترح إقامة «الاتحاد العربى» بدلا من جامعة الدول العربية، وهو الاقتراح الذى يؤيده الرئيس اليمنى على عبد الله صالح. إنه لا خلاف من حيث المبدأ.. بل إنه الإجماع على ضرورة تطوير الجامعة العربية بعد كل ما أصابها من ترهّل.. أضعف أداءها، ولكن التطوير المنشود للمنظومة وللمنظمة (الجامعة) لا يتحقق بتغيير وصفها أو اسمها.. بل يتحقق فى الأساس بتطوير وتفعيل آلياتها وبصياغة رؤية استراتيجية مشتركة موحدة باتفاق الإرادة السياسية لكافة الدول الأعضاء، ترتكز على ما يملكه العرب من عناصر قوة ذاتية.. يتعيّن ترشيد وحسن استخدامها لتحقيق المصالح العليا وصون واستعادة القوة المهدرة، وعلى النحو الذى يمثل ويعكس القوة الحقيقية للأمة العربية.. إقليميا ودوليا. أما إطلاق اسم «الاتحاد العربى» على جامعة الدول العربية، بينما لا يمتلك العرب موقفا.. مجرد موقف موحد إزاء القضايا المشتركة والمصيرية، فإنه سيّعد بكل أسف وبكل صراحة اسما على غير مسمى، وتوصيفا خادعا غير حقيقى للحالة العربية الراهنة. وفى هذا السياق تأتى أهمية ومصداقية..بل واقعية مداخلة الرئيس مبارك فى قمة «سرت» العربية والتى بدأها باستعراض للظروف الإقليمية والدولية والتى تحتم المزيد من التكاتف وتوحيد الصف العربى فى مواجهة التحديات المتشابكة.. السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية. وإذ أشار الرئيس مبارك فى مداخلته إلى ما وصفه بالإرث المهم والتجربة الغنية من العمل المشترك اللذين يستحقان الاعتزاز بهما وإمعان النظر فيما تحقق من نجاح وإخفاق، والبناء على هذا الإرث وتلك التجربة لتجاوزهما إلى مستويات أعمق وأشمل وأكثر رسوخا. فإنه حين استعرض رؤية مصر بشأن تطوير الجامعة العربية وسياسة الجوار، فقد حددها بإيجاز ووضوح فى ثلاث ركائز أساسية.. أولها: تأكيد مصر على ضرورة الإبقاء على اسم «جامعة الدول العربية» باعتبارها عنوان الإرث التاريخى، وفى نفس الوقت صياغة رؤية جديدة لتطوير أداء الجامعة تطويرا جوهريا من حيث المضمون وآليات العمل. وثانيا: التأكيد على مبدأ التطوير المتدرج الذى يجمع بين الطموح والواقعية وبخطوات عملية قابلة للتطبيق تلمسها الشعوب وتنعكس على حاضرها ومستقبلها. أما الركيزة الثالثة والتى تتعّلق باقتراح رابطة الجوار العربى، حيث تبدىّ جليا عمق رؤية مصر الاستراتيجية. إذ أوضح الرئيس مبارك أن الخطوة الأولى هى بلورة رؤية موحدة تجاه دول الجوار العربى، ثم تصّور لآليات عملية واقعية للتعامل معها فى إطار توافق عربى. وبوضوح أكثر.. يعكس حساسية وتشابك المواقف العربية والإقليمية الراهنة، بقدر ما يدعو إلى ضرورة التريث والتمهل فى إقامة هذه الرابطة، أكد الرئيس على ضرورة الجمع بين اعتماد معايير واضحة ومحددة ومتفق عليها للتعامل مع دول الجوار وتحديد أولويات تحرّكنا تجاهها، وضرورة مراعاة أوضاع العلاقات بين دول العالم العربى وكل دولة من دول هذا الجوار. هذه الرؤية المصرية الواقعية هى التى حسمت الجدل حول تطوير الجامعة العربية وتغيير اسمها، وهى التى أرجأت اقتراح رابطة الجوار، وعلى النحو الذى تبدىّ فى قرارت قمة «سرت» العربية.