شدني الشأن العام للكتابة حين يفيض بي الكيل, وتصبح الكلمات والحروف في غيره نوعا من الرفاهية البلاغية, وللأمانة التي يفترضها القارئ في الكاتب أن الإبحار في النفس البشرية والقضايا الإنسانية. هي في كثير من الأحيان هروب من الولوج في أمور الشأن العام, خاصة حين يتناقص اكسجين الأمل في رئتي, والملاحظ أن الناس تآلفت مع القبح والركاكة واستسلمت للواقع السيئ, ولست سوداوي المزاج ولا ملتهب القولون النفسي, ولا أعاني من اكتئاب مزمن, بل علي العكس تماما, فأنا أشكو من حماس زائد ومن تفاؤل مفضوح, وعندي قناعة بأنه اذا لم أكن متفائلا بالغد وعندي أمل, فالأولي أن أقود حركة( لطم الخدود) التي تشيع الحماس الي مثواه الأخير. يشدني الشأن العام حين أشعر كمواطن من80 مليونا, أن قضايا وشئونا حياتية تحتاج الي همسة أو صيحة أو شخطة أو للدقة غضبة( بتسكين الضاد), هذه الغضبة, أقرؤها في العيون وتصلني علي الموبايل, وهي حديث الناس في المقاهي والأندية وقزقزة المجتمع المخملي أيضا, الناس عادة تبرطم بالمعاناة ثم يسكتون, فالسلوك الذي يسيطر عليهم هو الصمت الثرثار مشفوعا بعبارة( آدي الله وآدي حكمته), ومازال المجتمع المدني يطل علي استحياء ومازال الاعتراف بدوره وفاعليته محدودا, ومازالت المبادرات الفردية ضئيلة ولكنها تذوب وتتلاشي في بحر من البشر طوله وعرضه ثمانون مليونا. من يغضب لنا؟ من يغضب اذا فاض بنا الكيل وطفح؟ هل هي الحكومة كجهاز تنفيذي؟ من منا لا يشكو من الكثافة المرورية وحركة سير السيارات كالسلاحف والغيظ الساكن في الصدور, وهدة الحيل التي يعانيها البسطاء قبل الذهاب لأعمالهم فلا ينتجون شيئا, هل اهتم أحد أو غضب لأن الناس بتتبهدل, والشوارع صارت جراجات والشلل في الطريق يهدد بحالات ضغط دم وسكر؟.. الوحيد الذي غضب لنا هو رئيس الدولة, صحونا علي صحف الصباح تعليق أن الرئيس ناقش في اجتماع موسع( الخنقة المرورية) واستبشرنا خيرا, وبعد أيام قليلة عقد الرئيس اجتماعا ثانيا لنفس ذات الغرض واستبشرنا خيرا, لم يضع الجهاز التنفيذي يده في يد الخبراء في هذا المجال, لأن العقد تسيطر علي الحكومة عند الاستعانة بالعقول المصرية, تركبها العفاريت اذا حاولت الجامعات أن تتعاون معها, يعني هوه أحمد زويل قرف من قليل؟. ولا أظن أن الرئيس سوف يطلب اجتماعا ثالثا لأن الرجل مشاغله أكبر, برغم أنه في أزمات كثيرة حياتية مرت بالبلد كانت له غضبته وتوجيهاته, شرح رئيس الدولة المشكلة ويبقي دور الأجهزة المعنية لتطرح مقترحاتها, وعرض ذلك عبر حوار مجتمعي, فأنا وأنت وهي وهو.. أطراف في المعادلة ولكن لا شئ تبدل أو تغير, فمازال الخروج الي الشارع وركوب مواصلات أو سيارات خاصة مغامرة بكل المقاييس, ربما يتحمل الناس جزءا من المشكلة, ولكن هناك حتمية قرارات جادة لابد من اتخاذها دون بطء أو تردد, ولكل إصلاح أو تطوير أو علاج ثمن. الذي غضب لنا هو رئيس الدولة حين أصدر توجيهات بغضب للحكومة بتشديد الرقابة علي مخالفات السرعة بالطرق وعدم تمديد مهلة عمل المقطورات( العالم كله يعمل بالشاحنات وتم إلغاء المقطورات التي تسبب الكثير من الحوادث), فهل تناولت استوديوهات تحليل الحوادث التي زرعت مآتم في البيوت؟ لا أظن! لقد انتهت الزيارة الرئاسية وستظل حوادث دماء الأسفلت من جديد والمتابعة في المشمش! حين حدث اعتداء علي أرض جزيرة آمون في أسوان وفاحت الرائحة الكريهة وتهامس الناس, فمن غضب؟ هل أوقفت الحكومة عقد البيع وهل جرؤ أحد علي التصدي للصفقة؟ لا أحد! لكن رئيس الدولة وقد تحري كعادته من أطراف كثيرة, قال: قف! هو الذي غضب وجاءت غضبته في صحف الصباح بإلغاء الصفقة فورا. معني هذا, أن رئيس الدولة صاحي ويقظ, وحتي بطء قراراته تدبير لأن في رقبته80 مليون نسمة, انه عين الصقر التي تري أوضح, الفضائيات العاقلة والشاشات المتزنة تضع الحقائق ربما المسكوت عنها أمام الرأي العام, وهذا دور إعلام مرئي موضوعي الهوية بديلا عن تقارير وردية أو مجاملة لا تقول الحقيقة, واذا حجبنا الجرأة العفيفة في تناول عيوبنا, فسوف تبقي العيوب وتستفحل: من يغضب لنا من الاعتداءات الجسورة علي الأرض الزراعية التي تقلصت؟ من يغضب لنا من استيراد الفول المدمس والزيت, وجبة ملايين المصريين؟ ومن يغضب لنا من جشع الوسطاء وتربح التجار وخط الفقر في هبوط؟ ومن يغضب لنا وفي مصر عقول مضيئة يستعان بها في دول أخري إلا مصر؟ ومن يغضب لنا من تجاهل العلماء ورجال العلوم الإنسانية علي مائدة صاحب القرار؟ ومن يغضب لنا اذا شعر المعوقون بأنهم مهمشون بسبب العجز؟ ومن يغضب لنا من سيطرة المال السياسي في الانتخابات؟ ومن يغضب لنا من تعثر الحرب علي الأمية والحرب علي الكثافة السكانية وهما عائقان خطيران مؤثران في مسيرة أمة؟ ومن يغضب لنا وينشر المظلومون استغاثات له في الصحف بعد خرس الأجهزة؟ ومن يغضب لنا اذا تأزمت أمور فشلت الأجهزة في حلها فيجيء هو بقرار؟ ومن يغضب لنا غضبا حكيما مقننا ليس كغضب العامة لأنه فوق كرسي المسئولية؟ ومن يغضب لنا عندما تسد إسرائيل كل الطرق المؤدية للسلام, فيضبط أعصابه ويضعها في ثلاجة وهي في قمة الغليان؟ ومن يغضب لنا حين تنفلت الألسنة العاقلة أو المفروض كذلك لتشعل حطب الفتن الطائفية, فيحكم قبضته علي هذا الجرح؟