علي الرغم من أهمية كل ما قيل وما يقال وأهمية كل ماكتب وما يكتب عن حرب أكتوبر المجيدة عام1973, فإن هذه الحرب لم يستطع المصريون والعرب أن يفعلوا دروسها فائقة الأهمية. وأن يجعلوها ضمن أسس عقائدهم العسكرية والسياسية, وأن يحولوها إلي ثوابت استراتيجية تحكم الفكر والأداء الاستراتيجي المصري والعربي, وبالذات ما يتعلق منها بإدارة الصراع مع الدولة الصهيونية, وهو الصراع الذي أثبتت هذه الحرب, ضمن ما أثبتت, أنه يتجاوز الحدود الضيقة للصراع المباشر الخاص بقضية فلسطين والأراضي العربية الأخري المحتلة ويتركز علي جوهر وجود هذه الدولة ذاته والمشروع الذي تعبر عنه, وتسعي إلي تحقيقه وما يتضمنه هذا المشروع من أهداف تتعارض كلية ما مع يطمح إليه العرب من مشروع للنهضة والتقدم الحضاري لقد أنضجت نكسة يونيو1967 الوعي الاستراتيجي العربي بحقيقة الصراع الدائر في ما يسمي الآن ب المنطقة التي هي وطننا العربي, فالسنوات التسع التي سبقت حدوث هذه النكسة منذ إعلان الوحدة بين مصر وسوريا وتأسيس الجمهورية العربية المتحدة في22 فبراير عام1958 وماتلاها من أحداث وتطورات خطيرة جعلت من مصر قوة قادرة علي تأسيس وقيادة مشروع النهضة العربية, ووضعتها وجها لوجه أمام المشروع الصهيوني وجاء العدوان علي مصر في الخامس من يونيو1967 ليستهدف وضع نهاية لهذا الدور المصري, ومن هنا بدأ الوعي الاستراتيجي المصري والعربي يدرك بعد هذا العدوان أن القضية ليست فلسطين بل هي مصر أولا, والمشروع النهضوي العربي ثانيا, وكان هذا الإدراك هو بداية الوعي الاستراتيجي الجديد الذي انطلقت منه شرارة إعادة بناء القوات المسلحة المصرية, والصدام المبكر مع العسكرية الإسرائيلية بإغراق المدمرة إيلات في أغسطس1967 قبيل ذهاب الزعيم جمال عبدالناصر إلي مؤتمر القمة العربي في الخرطوم, ومنه خرجت اللاءات الثلاث الشهيرة: لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع إسرائيل إلا بالانسحاب الكامل إلي حدود الرابع من يونيو عام1967 وبعدها بدأت حرب الاستنزاف ذات الملاحم البطولية الرائعة والنادرة للمقاتل المصري وعزيمته, ومنها أخذت تتأسس دروس التهيؤ لحرب التحرير الكبري الواحدة تلو الأخري حتي جاء يوم النصر في السادس من أكتوبر عام1973 ليفرض واقعا جديدا لإدارة الصراع العربي مع إسرائيل أجهضت قواعد اللعبة التي حرص الإسرائيليون علي أن يفرضوها بعد نكسة1967, وكان إجهاض هذه اللعبة هو أهم دروس هذه الحرب. فقد دأب الإسرائيليون بعد نكسة1967 علي فرض نظرية الأمن الإسرائيلي كأساس لإدارة الصراع مع العرب من خلال استراتيجية ردع قائمة علي امتلاك التفوق العسكري المطلق وبالذات التفوق النوعي في التسليح علي كل الدول العربية ومن خلال التفوق العسكري بدأ الاسرائيليون في انتهاج سياسة الردع والتخويف للعرب وتوظيف هذه القدرات لفرض معادلات سياسية في إدارة الصراع مع العرب, ابرزها الربط بين هدف التوسع علي حساب الأراضي العربية وتحقيق الأمن الإسرائيلي. حرب أكتوبر وضعت نهاية لنظرية الأمن الإسرائيلي تلك, لكن انخراط مصر مبكرا في مشروع السلام وتوقيع المعاهدة الخاصة بذلك عام1979, وخروجها من دائرة الصراع مكن إسرائيل من صياغة قواعد لعبة جديدة لإدارة الصراع في المنطقة جعلت علاقة العرب بالولاياتالمتحدة علاقة ثلاثية وليست علاقة ثنائية كما هي كل العلاقات بين الدول حيث أصبحت إسرائيل طرفا في هذه العلاقات فقد أصبحت هذه العلاقات بين الدول العربية والولاياتالمتحدة تتم عبر إسرائيل, وتحولت إسرائيل إلي أداة تنقية لهذه العلاقات أو ل فلترة هذه العلاقات( إن جاز التعبير) بحيث يتم استبعاد كل ما يضر إسرائيل من أنواع هذه العلاقات وتمرير ما ترضي عنه سواء كانت علاقات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية, لكن الأهم من قواعد هذه اللعبة هو مايتعلق بدور السمسار أو الوكيل الذي فرضته إسرائيل علي علاقات أمريكا مع العرب. فقد جري اعتماد قاعدة تقول بان تقوم إسرائيل بالضغط علي العرب والامعان في العدوان ضد الشعب الفلسطيني, ما يضع الحكومات العربية في موضع حرج شديد مع شعوبها يتهدد شرعيتها لعجزها عن الرد علي هذه الاعتداءات, فلا تجد بديلا غير أن تتجه إلي الولاياتالمتحدة تناشدها التدخل لدي إسرائيل لوقف الاعتداءات, وتقبل واشنطن بعد أن تحصل علي الثمن من العرب بجميع أشكاله المالية والعسكرية والسياسية, وتحصل إسرائيل علي جزء من هذا الثمن, وهكذا يجري تمويل القدرات العسكرية الإسرائيلية من أموال العرب, ويزداد الاعتماد العربي علي الولاياتالمتحدة, وتتكرر اللعبة مرات ومرات, إسرائيل تمعن في العدوان, والعرب يدفعون, وأمريكا تحصد وتعطي لإسرائيل الفتات, وهو ما دفع آرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق للتمرد علي قواعد هذه اللعبة الرديئة ومطالبة الولاياتالمتحدة بما أسماه فارق الفاتورة, أي الحصول علي جزء وفير من الفاتورة التي يدفعها العرب للولايات المتحدة ثمنا لوقف الاعتداءات الإسرائيلية. هذه اللعبة الرديئة وصلت إلي ذروتها في السنوات الأخيرة وعلي الأخص في الشهرين الماضيين حيث جري ابتزاز العرب أمريكيا والتطاول عليهم بدرجة غير مسبوقة, في المجال النووي ثم في عملية التسوية والمفاوضات المباشرة الفلسطينية الإسرائيلية, التي فرضها الأمريكيون علي السلطة الفلسطينية والدول العربية. ففي الرابع والعشرين من شهر سبتمبر الماضي أجهض الأمريكيون مشروع قرار عربي كان يطالب إسرائيلي بالتوقيع علي معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية توطئة لتنفيذ القرار الخاص بجعل الشرق الأوسط إقليما خاليا من الأسلحة النووية. أما في مجال ما يسمي ب عملية السلام فقد تجاوز الرئيس الأمريكي باراك أوباما كل الحدود في رسالة الضمانات التي بعث بها إلي بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية ليقبل بمجرد تمديد قرار تجميد سياسة الاستيطان في الضفة الغربية شهرين إضافيين لإنقاذ المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين, فقد تضمنت رسالة الضمانات تلك إغراءات وحوافز عسكرية أمريكية غير مسبوقة لإسرائيل من أسلحة متطورة وتعهد كامل بحماية الأمن الإسرائيلي, ومنع الدول العربية من اللجوء إلي الأممالمتحدة لفرض قيام دولة فلسطينية من طرف واحد كخيار بديل للمفاوضات, لكن الأخطر هو تعهد أوباما بمطالبة الدول العربية بالاحتشاد بشكل مشترك في مواجهة ما أسماه ب الخطر الإيراني, وبلورة اتفاقية للأمن الاقليمي ضمن منظومة أمن إقليمية جديدة أعطاها مسمي عمارة الأمن الإقليمي هدفها المركزي هو تأسيس شراكة أمنية عربية إسرائيلية يكون هدفها إيران كمقدمة لشراكات عربية إسرائيلية أخري. هذه الضمانات التي رفضها نيتانياهو ورفض معها تجميد سياسة الاستيطان أثارت ذعرا لدي أقرب أصدقاء إسرائيل في الكونجرس الأمريكي, وقالوا إذا كان هذا ما يبدي الرئيس استعداده لاعطائه لإسرائيل مقابل تجميد الاستيطان لستين يوما فقط, فما الذي سيتعهد بإعطائه مقابل اتفاق سلام شامل؟! استفسار لم يصدر عن أي من الحكومات العربية التي أدمنت الصمت علي قواعد تلك اللعبة الرديئة منذ أن تجاهلت أهم دروس حرب أكتوبر المجيدة في إدارة الصراع مع هذا الكيان الصهيوني, وهذا ما يفرض مجددا حتمية العودة إلي هذه الدروس لفرض لعبة جديدة تسقط فرضيات كل تلك اللعبة التي أوصلتنا إلي حافة هاوية السقوط التاريخي, ونستعيد بها مجدا وفخرا وعزة دفع ثمنها الأبطال والشهداء.