لم تقتصر مفاجآت هذا العبقري الذي وافته المنية وهو ابن الحادية والثلاثين علي التلحين فقط, وانما ما لا يعرفه كثيرون هو انه مؤلف للعديد من الأزجال الساخرة والاشعار الضاحكة ومنها هذا الزجل الرائع الذي يتقمص فيه لغة خواجة ينطق الافيهات المصرية بلغة خواجاتي ترسم بدائع الكوميديا وتبرز المهارة والاقتدار في تكوين الصورة الشعرية: الضاحكة مخسوبكو انداس صبخ مختاسمسختو جزمة ياناسمفيش فلوس بقيتو منخوسفقرتو خلاصنشتغلو في إيه يافندي يابيهمادام البخت موريهمافيش تهييص مافيش قميصمافيش لباسفين نروخو سابرستيه دنيا لسه تربيتيهأيام الهيصة فنيتو خلاصمخسوبكو انداس صبخ مختاسكفرتو ياناسبوكر مافيش يابودرويشقهاوي رقص مافيشإزاي يافندي ابن الكيف يقدر يعيشبوكر مافيش يابودرويشقهاوي رقص مافيشمادام مافيش بدال يغنيشنبيع ورنيشدوخنا نروخ لمين سوخنا يامسلميننشكي نقول لمين آهحانتيش مانتيش يابو الريشإن شالله تعيش ولأن سيد درويش كان يري في الموسيقي سلاحا في معركة الاستقلال الوطني, استخدم موهبته في الزجل الساخر ليخدع سلطات الاحتلال الانجليزي! حدث هذا في نهاية الحرب العالمية الاولي حين سافر الوفد المصري لفرساي لحضور مؤتمر الصلح متأثرا باقاويل ووعود الرئيس الامريكي وودرو ويلسون عن حق تقرير المصير والحرية ولكن الوفد قوبل بتجاهل ثم اعتقلت بريطانيا اعضاءه ونفتهم وهنا اندلعت المظاهرات وقامت ثورة1919 المجيدةورضوخا للضغط الشعبي ارسلت بريطانيا لجنة ملنر للتقصي والبحث ورفض الشعب المصري التعاون معها رفضا باتا بل وقاطعها تماما حتي قيل ان اعضاء اللجنة كانوا يسالون الناس في الشوارع عن اسمائها فتكون الاجابة اسأل سعد باشاوثارت ثائرة بريطانيا وصدر قرار بتحريم ذكر اسم سعد وخاصة بعد اغاني مثل: مصرنا وطنا سعدها املناوكانت الرقابة علي الصحف والمطبوعات علي اشدها وهنا تفتق ذهن سيد درويش عن أغنية: يابلح زغلول يا حليوة يابلحوعلي الفوراصبحت هي الاغنية الشعبية الاولي وانتشرت وسط الناس انتشار النار في الهشيموبالطبع كان الجميع يعلمون انهم يغنون لسعد باشا زغلول قائد الثورة ورضخت بريطانيا وافرجت عن سعد باشا تقول كلمات الاغنية: يا بلح زغلوليا حليوة يا بلحيا بلح زغلوليا زرع بلدي عليك يا وعدييا بخت سعدي زغلول يا بلحعليك أنادي في كل واديقصدي ومرادي زغلول يا بلحالله أكبر عليك يا سكريا جابر اجبر عليك يا بلحما عنتش ابكي وفيه مديرمين بس ينكر زغلول يا بلحيا روح بلادك ليه طال بعادكتعا صون بلادك زغلول يا بلحسعد وقاللي ربي نصرنيوراجع لوطني زغلول يا بلحيا بلح زغلول في يوم الخميس29 مايو عام1919 في منزل بسيط بحي جزيرة بدران بشبرا, إمتلأت الدنيا بالزغاريد و الفرحة و البهجة بين أصدقاء وأسرة العروس وهي في قمة زينتها وجمالها بإنتظار عقد قرانها علي عريسها الشيخ سيد درويش, وما أن جاء المأذون لعقدالقران حتي سكن الجميع و كأن علي رؤوسهم الطير, في انتظار الانتهاء من مراسم الزواج, وبدأ لملء بياناته الروتينية, وجاء الوقت لملأ خانة مهنةالعريس, فقال سيد بكل بساطة موسيقي, وما أن سمع المأذون ذلك حتي اكفهر وجهه وبدأ يلملم أوراقه مستعدا للإنصراف, وعندما استوقفه الجميع عن ذلك متعجبين لتصرفه أجابهم باقتضاب أن العرف المتفق عليه يقضي بعدم الإعتراف بأهلية العاملين في الوسط الفني أو الموسيقي ولن يتمكن أي مأذون من إتمام هذه الزيجة, فما كان من الشيخ سيد درويش إلا أن قال له ساخرا: طيب خليها مدرس لكن لمدة خمس دقائق وبس! ويروي الناقد الفني احمد حسن والذي كان مقربا من درويش وتعود أن يحضر جميع لياليه وسهراته, كيف مر عليه أحد الأيام الشيخ سيد ليأخذه معه لإحدي السهرات, فاعتقد احمد حسن أنها ستكون سهرة عبقرية, إلا أنه روي له في الطريق أنه استقل في نهار اليوم نفسه عربة حنطور مع سائق لا يعرفه, وسمعه ينادي علي زميل له في الاتجاه المقابل و يدعوه إلي سهرة في بيته الليلة بمناسبة سبوع ابنه, فرد عليه صديقه ساخرا: يعني مسهر الشيخ درويش يا أخي؟!, وتضاحك الصديقان ومضي كلا منهما في طريقه, وتمكن الشيخ سيد من خلال حديثه مع السائق من معرفة عنوانه, وقرر أن يحيي حفلة سبوع ابنه وبالفعل جاء الليل ومر الشيخ سيد علي صديقه أحمد حسن و قد شقا طريقهما نحو منزل هذا السائق, ومن حارة إلي زقاق إلي عطفة داخل حي شعبي, وجد السائق راكب الصباح يقف بشحمه ولحمه امامه حملا عوده, وعندما علم أنه الشيخ سيد درويش لم يصدق نفسه وقفز عليه يقبله ويعانقه, وقد انتشر خبر وجوده في الحي بأكمله وتجمع الأهالي والجيران ليجلسوا حول الشيخ سيد الذي اخذ يأكل ويشرب معهم ويغني ويحفظهم ألحانه. ويعلق احمد حسن علي هذه الليلة قائلا: والله ما سمعت سيد يحلق الي القمم التي حلق فيها تلك الليلة بمثل الابداع الذي جعلها ليلة العمر في حياتي, وهذا مثال حي علي مدي بساطة هذا الفنان وحبه للناس وتواضعه معهم الفنان بديع خيري رفيق دربه يروي طرفا من اخبار الصعلكة والفقر والكبرياء في حياة موسيقار الشعب, يقول خيري: قاسينا معا مرارة الفقر والجوع.. ولكنه كان فقرا لذيذا..كنا نجتمع فيسألني معاك كام يابديع؟ فأقول ثلاثة قروش..وأنت معاك كام؟ فيقول خمسة قروش..فنضم مامعي علي مامعه لننفق منه يومين أو ثلاثة..أو أربعة إذا أمكن.وكنا نهرب من المقهي الذي اعتدنا الجلوس فيه..حتي لا يمر علينا صديق نعجز عن أن نطلب له قدحا من القهوة. كانت حيانتا موسما متصلا للإفلاس.. ولكن كانت هناك مواسم للثراء وهي مواسم تسجيل الاسطوانات التي كانت تأتينا مرة واحدة كل ستة أشهر.. وكان أمامنا مورد رزق آخر..ولكنه كان موردا عسير المنال.. هذا المورد هو الخواجة ميشيان وهو رجل أجنبي عنده جهاز لتسجيل الاسطوانات وضعه في حجرة فوق سطح بيت أمام محل عمر افندي وكان الرجل يعلم شدة حاجتنا للمال..فكان يستغل هذه الحاجة ليثري هو..ولنأكل نحن..وإني لأذكر يوما ضاقت بنا فيه سبل الرزق.. ولم يكن مامعي وما مع الشيخ سيدي يتجاوز عشرة قروش..فاقترحت علي الشيخ سيد أن نعكف أنا علي التأليف وهو علي التلحين ثم نذهب إلي ميشيان فنبيع له ما انتجنا.وجلسنا ليلة كاملة وضعت فيها اثني عشر دورا لحنها الشيخ سيد درويش وذهبنا في الصباح إلي ميشيان تداعبنا الأماني والآمال. وبنظرة واحدة اكتشف ميشيان فابتسم ابتسامة الفاهم وقالسمعوني..واسمعناه..فاختار ثمانية أدوار..بدأ يساومنا عليها..وعرض علينا عشرة جنيهات..وعندما بدأت ابذل محاولاتي لأحمل الرجل علي دفع15 جنيها.. كان الشيخ سيد قد استبدت به ثورة غضب لكرامته وسمعته يقول: ايه ده ياخواجة؟ ثمانية أدوار تأليف وتلحين بعشرة جنيه..هو احنا بنبيع ترمس؟ورفع الرجل الثمن إلي12 جنيها..فتنفست الصعداء ولكن سيد درويش رحمه الله-زادت ثورته..فجمع النوت كلها..لا ليخرج بها..بل ليمزقها ويلقي بها علي الأرض وسحبني من يدي بعنف..وخرجنا أشد جوعا مما دخلنا.وضاقت الدنيا في عيني..فقلت للشيخ سيد اعاتبه: عملت كده ليه ياشيخ سيد؟وناكل منين؟ وإذا به يقول لي:اسمع يابديع..الجوع مش عيب..إن خدش الكرامة هو اللي عيب..لازم نحافظ علي كرامة الفن..ناكل تراب..نسف رمل..ناكل من صفايح الزبالة لكن يجب أن تكون لنا كرامة..الدور بجنيه وربع؟.. تأليف وتلحين وغناء.. دي بلد يجوع فيها العباقرة أمثالنا..