أربعة أشهر كاملة وربما أكثر شغلت الرأي العام في عموم الأناضول تصريحات حكومية هنا وهناك أوحت جميعها إلي أن تركيا مقبلة علي ثورة تشريعية تبدأ خطواتها الأولي والأهم بتعديل دستور البلاد. والهدف المعلن هو دعم الديمقراطية والاتساق مع معايير الاتحاد الاوروبي, والذي تسعي تركيا بكل كيانها إلي الانضمام إليه. لكن الرهان الحقيقي لتلك الثورة المنشودة كان هو ما روجت له الأدبيات في الصحف السيارة الناطقة بلسان أهل الحكم سواء في الباشباكلنك او في الكشك القصر الجمهوري, وتمثل في إزالة آثار انقلاب1980 وعلي رأسها الدستور المصنع علي يد الانقلابيين. وهو أمر محمود ومطلوب من الكافة بدءا من الأحزاب رغم اختلاف منطلقاتها الايديولوجية وتبايناتها الفكرية مرورا بمنظمات المجتمع المدني واخيرا عدد لا بأس به من مؤسسات الدولة, أنها إذن حالة من الإجماع. لكن سرعان ما دب التنافر والتباين بين قوي المعارضة بشقيها اليساري الديمقراطي واليميني القومي المحافظ ومعها قطاعات نافذة في القضاء والجامعات وصحف كبري تصنف علي انها من معاقل العلمانية, كل هذا في جانب وحكومة العدالة والتنمية بأغلبيتها الكبيرة بالبرلمان ورجال أعمال في جانب آخر, فالفريق الأول بدأ يري النيات الحقيقية لأردوغان والتي تسعي إلي هدم مباديء الدولة, أما الادعاء بتكريس الديمقراطية فهو حق يراد له باطل, وزاد من هواجسهم رغبة العدالة المستميتة في تعديل بنود ثلاثة بالدستور تتعلق بإعادة هيكلة المحكمة الدستورية العليا حتي لا تكون سيفا مسلطا علي الحياة السياسية وفقا لتبريره, وذلك بإدخال عناصر يتم تعيينها من قبل البرلمان وتغيير بنية مجلس القضاء الأعلي بتوسيع صلاحيات رئيسي الجمهورية والحكومة في اختيار القضاة وإعفائهم من مناصبهم فضلا علي محاكمة العسكريين أمام محاكم مدنية. وبدأت المناقشات الصاخبة ولم ينتبه أحد إلي قول هاشم كليتش رئيس المحكمة الدستورية عندما لمح إلي ضرورة حدوث توافق مجتمعي حول التعديلات المزمعة قبل إقرارها, غير أن اردوغان لم يعر ذلك انتباها بل انتقد رجال القضاء في إبداء رأيهم حول ما يتصل مباشرة بصميم عملهم, ولأن نصابه القانوني بالبرلمان لا يصل إلي الثلثين لم يتمكن العدالة من تحقيق الاغلبية المطلوبة, الأمر الذي حتم إحالتها للاستفتاء الشعبي. وبالتوازي تقدمت المعارضة بطعن أمام محكمة الدستور التي قبلت النظر فيه إلي أن اصدرت قبل ايام حكمها وهو ظاهريا رفض مطلب المعارضة بإلغاء التعديلات برمتها ووقف الاستفتاء عليها, لكنه في الوقت نفسه أبطل من المواد الثماني والعشرين مادة فقرات فقط من المواد الثلاث محل الجدل, ورغم ضآلة الملغي إلا أن دلالته تشكل بيت القصيد, أما لماذا فالمسألة واضحة ألا وهي: وقف طموح العدالة وفرملة جنوحه قبل أن يقسم البلاد والعباد وتلك هي بعض الاسباب الجوهرية: قبل فترة طويلة نسبيا بيد أنها تجاوزت عاما ونصف العام أنبري أحد الكتاب بالقول إن تركيا بحاجة إلي ثمانية عقود كي تمحو آثار ثماني سنوات خلفها العدالة والتنمية الحاكم, عبارة قد تبدو فيها المبالغة لكنها عكست في ذات الوقت بعض حقائق ظهرت بالمجتمع يسعي القائمون عليه إلي تحويله لنسق مختلف, يلعب الدين فيه دورا محوريا, علي أية حال لم تفوت الحكومة تلك الجملة وما أن جاءتها الفرصة انقضت علي صاحبها تزج به في غياهب السجون دون محاكمة حتي الآن. وبالتزامن بدت نوازع الانتقام تطفو علي السطح لتطول مؤسسات تمثل هيبة الدولة التركية دون أن يكون هناك سند من الواقع, الطريف والمبكي في آن هو عندما اطلقت محاكم سراح بعض المقبوض عليهم والمتهمين بالتخطيط لانقلاب ضد الحكومة, هنا هاجت السلطة واشتاطت غضبا وانبري رئيس الحكومة منتقدا في عبارات تجاوزت أحيانا حدود اللياقة القضاة لتدخلهم في العمل السياسي, وفي محاولة لوقف هذا السيل الجارف من الهوس الانفعالي عادت محاكم أخري خشية من بطش حكومي إلي إصدار قرارات جديدة باعتقال من سبق وافرج عنهم, ولانها لم تجد جديدا يدينهم عادت إلي إصدار أحكام ببطلان الاعتقالات والإفراج فورا عمن قبض عليهم, وكان طبيعيا أمام هذا المشهد وغيره من المشاهد أن يطرح السؤال إلي متي يستمر هذا العبث بالسلطة القضائية؟! والمحكمة الدستورية التي سبق وحذرت العدالة الحاكم من مغبة إغلاقه وحله وجدت نفسها في أتون الصراع السياسي, وكان عليها التمعن في الحاصل بتركيا إلي أن جاء حكمها التوافقي حتي وإن كان مسيسا حسب توصيف أردوغان, فهو في النهاية استند إلي قراءة للمبادئ المستقرة في ضمير الجمهورية التركية والتي لا يجوز وفقا للمنصوص عليه في الديباجة الأولي للدستور الاقتراب منها سواء بالتغيير أو التعديل أو حتي طرحها للنقاش.