في مقال سابق تناولت مشروع قانون يناقشه الكونجرس الأمريكي لدعم الديمقراطية في العالم. وحينما تقرأ بين السطور، أو تستعرض قائمة الخبراء الذين دعاهم الكونجرس لجلسات الاستماع التي تسبق المناقشات تمهيداً للتصويت وإقرار المشروع إلي قانون، لا يبقي كثيراً من الشك في أن المقصود بالقانون هو بلدان الوطن العربي في المقام الأول، ثم جمهوريات أسيا الوسطي (السوفييت سابقاً) في المقام الثاني. وكان الهدف من ذلك المقال تنبيه الأنظمة العربية المستبدة، للمرة المائة، أنها إذا لم تبادر للإصلاح الديمقراطي من تلقاء نفسها، فإن الإصلاح سيُفرض عليها من الخارج. وربما يتذكر بعض قرائنا، مقالنا في صحيفة (الحياة: 11/8/2003) منذ سنتين تقريباً، والذي تمنيت فيه أن يكون الإصلاح بيدنا لا بيد عمرو ولم يتحرك الحكّام العرب، واستغرق عدد من المثقفين في حوارات بيزنطية لا حول الإصلاح المطلوب، ولكن حول كيفية دعم الأنظمة المستبدة لمواجهة القوي الخارجية التي تهدف إلي الترويج للديمقراطية، علي أساس أن رفض الديمقراطية هو نوع من المقاومة الوطنية. ونتيجة تنطع هؤلاء المثقفين وتلكؤ هؤلاء الحكّام، توالت المبادرات الخارجية الأمريكية والأوروبية. وكانت آخر تجليات ذلك مبادرة مشتركة لمجموعة من الأطراف الأوروبية والأمريكية التي جمعت مفكرين وخبراء ومسئولين حكوميين، وأطلقت علي نفسها اسم الشبكة الأطلنطية الديمقراطية . وكان الطرف الأكثر حماساً في تنظيم وتمويل هذه الشبكة هو صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة . وهو مؤسسة ألمانية نشأت بعد خمسين سنة من نهاية الحرب العالمية الثانية لرد الجميل الذي أسداه مشروع مارشال الأمريكي لإعادة بناء وتعمير ألمانيا المهزومة والمنهكة بعد تلك الحرب. وهو اعتراف من الألمان المعاصرين بأنه لولا مشروع مارشال الأمريكي (1945-1995) ما برزت ألمانيا كقوة اقتصادية - صناعية - ديمقراطية، علي النحو الذي نراه اليوم. وكانت إحدي المعجزات الماضية لمشروع مارشال الذي استفادت منه، أيضاً، كل من فرنسا وإيطاليا، هو السوق الأوروبية المشتركة، الذي تطور بدوره إلي الاتحاد الأوروبي ، الذي بدأ بسبع دول، ثم توسع إلي خمس عشرة، ثم إلي خمس وعشرين. وها هي عدة بلدان أخري علي حافة القارة الأوروبية، منها تركيا، ذات الأغلبية المسلمة تعرف باب الاتحاد، وتسعي للانضمام إليه. وقد أصبحت بطاقة عضوية هذا النادي المتميز، هي الديمقراطية واحترام الحريات المدنية. وهو ما تحاوله جاهدة حكومة حزب العدالة والتنمية (ذي الجذور الدينية). في كل الأحوال كانت تجربتي مشروع مارشال والوحدة الأوروبية هما خلفية إنشاء الشبكة الأطلنطية للديمقراطية ولاجتماع بروكسل الذي شارك فيه عدد من دعاة الديمقراطية العرب، منهم رياض المالكي (فلسطين)، ود. عمار شاهين، ود. عمر حمزاوي، نائبان سابقان في مجلس الشعب المصري هما المهندس رامي لكح، والمهندس محمد فريد حسانين. كانت إحدي جلسات المؤتمر لمناقشة أسباب تعثر التحول الديمقراطي في بلدان الوطن العربي، رغم المبادرات الداخلية العديدة للديمقراطيين العرب خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ورغم مبادرة الاتحاد الأوروبي في برشلونة منذ عشر سنوات، ورغم المبادرة الأمريكية المعروفة باسم الشراكة الشرق أوسطية قبل ثلاث سنوات. وتم استبعاد الإسلام كعقبة في طريق الديمقراطية. فقد بينت إحدي أوراق المؤتمر أن ثلث المسلمين في العالم اليوم يعيشون في بلدان ذات حكومات منتخبة ديمقراطياً مثل أندونيسيا وبنجلاديش والهند (150 مليون مسلم) وماليزيا وتركيا والمغرب والسنغال ونيجيريا. وبما أن معظم الثلثين المحروم من الديمقراطية في العالم العربي، فإن المشكلة لا بد أن تكون في الأنظمة العربية الحاكمة، وليست في الإسلام والمسلمين. واشتكي الأوروبيون من مناورات الحكّام العرب فيما يتعلق بمبادرة برشلونة التي احتوت ثلاث حزم: الأمن، والمساعدات الاقتصادية، والديمقراطية (المجتمع المدني وحقوق الإنسان). فرغم الالتزام المتبادل بين الاتحاد الأوروبي وعشر دول عربية جنوب المتوسط، بتنفيذ الحزم الثلاث معاً، إلا أن الدول العربية - ربما باستثناء المغرب والأردن - لم تحترم الاتفاق إلا في الشقين الأمني والاقتصادي. بل إن بعض الأوروبيين قد تعلموا كلمة الفهلوة من السياق المصري، ومن خبرة التفاوض مع السيد عمرو موسي الذي كان وزيراً للخارجية خلال السنوات الخمس الأولي لعملية برشلونة. ففي كل مرة كانوا يذكرونه بأهمية تنفيذ الحزمة الثالثة، كان يسوق الأعذار، ومنها تخويف الأوروبيين من الإسلاميين المتطرفين، أو ضرورة تسوية القضية الفلسطينية أولاً. وقد لاحظ الأوروبيون أنه لم يكن يفعل ذلك عند التفاوض حول الترتيبات الاقتصادية والأمنية، وفقط عند الحديث عن الديمقراطية. وحين سأل المسئولون الأوروبيون بعض خبرائهم لتفسير هذه الانتقائية، قيل لهم أنها الفهلوة المصرية! خصص المؤتمر في بروكسل جلسة مستقلة لمصر، القيت فيها ثلاث أوراق من المشاركين المصريين ومن عضوتين من البرلمان الأوروبي، إحداهما إيطالية هي إيما بونينو، والثانية تشيكية هي يانا هاباسكوفا، صاحبة العبارة المشهورة، مصر أم الدنيا، وهما تجيدان العربية، وعاشتا سنوات طويلة في مصر، وتعرفان المشهد المصري جيداً. بدأت الجلسة المصرية بهجوم شديد من المشاركين علي التصريحات المتناقضة من المسئولين الأمريكيين حول دعم الديمقراطية وتركز الهجوم علي لورا بوش، زوجة الرئيس الأمريكي التي أسرفت في امتداح الخطوة اليتيمة التي اتخذها الرئيس مبارك بتعديل المادة (76)، وانتقادها للمعارضة المصرية التي تطالب بخطوات أكثر وأكبر وأسرع. وحاول نيكولاس بيرنز وكيل الخارجية الأمريكية وسكوت كارينيو، مساعد وزير الخارجية أن يقلل من تأثير تصريحات لورا بوش، علي أساس أنها غير مسئولة عن رسم السياسة الخارجية عموماً، أو عن ملف الديمقراطية في الشرق الأوسط خصوصاً. ورغم فروق التوقيت إلا أن الرجلين طلبا من واشنطون أن تقيد التزامها علناً بأجندة الإصلاح السياسي في مصر كاملة، وفي مقدمتها تأييد مطالب القضاة المصريين بالإشراف الكامل علي كل مراحل العملية الانتخابية، بما في ذلك تنقية الجداول الانتخابية، وسلطة الضبط والربط داخل وخارج اللجان، واستعادة استقلالهم الكامل وعلي النحو الذي يتضمنه المشروع المقدم من ناديهم لقانون جديد. كما أن البيت الأبيض نفسه أدان السوك العنيف وغير اللائق الذي استخدمته قوات الأمن المصرية مع المتظاهرين الذين كانوا يعبّرون عن آرائهم ومشاعرهم بطريقة سلمية، واستنكر بشكل خاص الأساليب البشعة التي استخدمتها عناصر مأجورة ضد المتظاهرات يوم الاستفتاء علي تعديل الدستور (25/5/2005). غير أن أهم ما تمخض عنه لقاء بروكسل عمليا، هو تشكيل مجموعة عمل أوروبية - أمريكية - عربية لمتابعة تطورات المشهد المصري خلال الشهور الستة القادمة، وتوثيق وتقويم سلوك الأطراف واتساقها مع ما التزمت بها أمام شعوبها من ناحية، ومع معايير الإصلاح الديمقراطي التي اصطلحته عليها الشبكة الأطلنطية للديمقراطية من ناحية أخري. من نهاية لقاء بروكسل، خُيل إلي أن المؤتمر كان حول مصر، أولا، وآخراً. وحينما عبّرت عن هذا الخاطر لمنظمي اللقاء، قالت إحدي المستغربتين، هذا صحيح... أليست مصر هي أم الدنيا؟ ، وردت المستغربة الثانية ولكنها أم شقية... تحتاج الحظر عليها ! وتذكرت أنني كتبت منذ سنة ونصف مقالاً، نشرته كل من صحيفتي المجلة و الواشنطن بوست بعنوان رجل العالم المريض ، وكان عن الوطن العربي، الذي كثرت المبادرات وقتها لعلاجه. أما في بروكسل فقد خلص الأطباء إلي أنه بدون علاج مصر أولاً، فإنه لا أمل، لا في الديمقراطية، ولا في السلام، ولا في التنمية جنوب المتوسط - أي من أفغانستان إلي المغرب. وهكذا لنا أن نتوقع رقابة كثيفة علي أم الدنيا من بقية أولادها، وخاصة الأقوياء، والأثرياء منهم. ولا أظن أن مدرسة الفهلوة المصرية ستجدي هذه المرة. والله أعلم. ----------- صحيفة الراية القطرية في 13 -6 -2005