عندما دلفت إلي بهو دار القضاء العالي في صحبة نفر من زملائي قادمين من الاسكندرية شعرت بالمهابة بين جدران بيت العدالة, فمعمارية المبني ووقار القضاة الذين سبقونا بالحضور تجلت معهما معاني عزة المنصة وعليائها.. وزاد من هذا الشعور كون احاديث القضاة الذين تشعبوا في البهو إلي مجموعات صغيرة همهمات لاتكاد تصل إلي الحناجر حتي تخرج من الافواه همسات خجولة تعبر عن مدي التزام الواقفين بأدب القاضي الجم ووقاره. مرت دقائق معدودات قبل أن ندخل الي قاعة عبدالعزيز فهمي باشا الرائعة والمنسجمة مع الاسم الكبير لأول رئيس لمحكمة النقض المصرية, المكان وعنوانه مدا الحضور بالاحساس بالفخر, فنحن احفاد اجيال عظيمة ورثونا القيم والتقاليد القضائية.. وعلمنا عنهم أن استقلال القضاء في استقلال القضاة, والقاضي المستقل البعيد عن كل تأثير إلا من القانون واعتبارات العدالة هو القادر علي الفصل في مصائر الناس ومصالحهم, وقد كانت المحاكم الاهلية خير دليل علي ذلك, فتحت الاحتلال صدرت احكام علي غير هوي أصحاب السلطة لأنها التزمت اعتبارات العدالة وحدها دون النظر إلي أي اعتبارات أخري مهما عظم شأنها وإذا كان استقلال القاضي هو الاساس فإن استقلال القضاء وحصانته إنما يعبر عن أن الحكم في الدولة هو حكم مؤسسي ومنهجي ينطلق من القناعة بأن سلطة القضاء هي مبني اقامة العدل الذي يستمد منه الحكم شرعيته, ومن هنا اعاد الرئيس مبارك للقضاء المصري في سنة1984 مجلسه الأعلي ليتولي وحده شئون القضاة رفعا للحرج وإعادة للحق في نصابه الصحيح. مر بعض الوقت قبل أن يدخل إلي القاعة من باب المداولة رئيس الجمهورية القادم ليشارك القضاة احتفالهم بمرور25 سنة علي اعادة مجلس القضاة الأعلي, وضجت القاعة بالتصفيق ترحابا برأس الدولة, وتعبيرا عن حب مكنون في النفوس تنفس في لحظة اللقيا وتجسد عند الرؤية.. وكأن الاكف أنابت عن الافواه في قولة مصرية خالصة وهي والله مشتاقين. جلست أرقب الرئيس فوجدته بين الحين والحين يتفحص الوجوه أمامه, وعلي محياه شبه ابتسامة لطيفة تحفظ له مهابته وتصدر إلينا مشاعر الود والمحبة.. وشعرنا بأنه يعرف كل واحد منا, وكانت الحميمية واضحة في نظراته للجميع وفي تعامله مع رئيس مجلس القضاء الاعلي الجالس بجواره.. ساد القاعة دفء المشاعر بين الرئيس والقضاة, هم فرحوا بقدومه إليهم وهو فرح بوجوده بينهم. رأيت في لحظة أن الرئيس يضم الجميع بذراعيه, كما رأيته وهو في حضن العدالة يملؤه الدفء, فالعلاقة التبادلية جعلت كلا منهما يحتضن الآخر, فهؤلاء سدنة العدالة وهمهم تحقيق العدل الذي يمثل أساس الحكم ورئيس الجمهورية هو أب للجميع وحكم بين السلطات ودعمه للقضاء يزيد من قوته ومنعته. وقد كانت كلمة الرئيس إلي القضاة موزونة بميزان الذهب, فيها المعاني الواضحة والمباني المكنونة, فهمنا منه ماصرح به كما استوعبنا مابين السطور, وإذا كانت الحكمة تقول خاطب الناس علي قدر عقولهم فقد خاطب الرئيس قضاة مصر بالاسلوب الراقي الرصين وأفصح في بعض المواضع وألمح في غيرها ثقة منه بأن القاضي قد يكفيه التلميح, وهنا ترسخ الاحترام المتبادل بين الرئيس والقضاة وأجمع الطرفان في مشاعرهما بين الحب والاحترام. وبعد أن أنهي الرئيس كلمته, وقف القضاة وحيوه بالتصفيق الحار المعبر عن مشاعرهم واستطال تصفيقهم بعض الوقت, فإذ بالرئيس يبادلهم التصفيق بالتصفيق وكأنه يؤكد لهم أن مشاعرهم تجاهه هي مشاعره تجاههم, وكانت لحظات انسانية بالغة التأثير في النفوس.. وغادر الرئيس القاعة وبعده غادرها الجميع... إلا أن الرئيس لم يغادر حضن العدالة الدافئ.