عندما يكون احتفال القضاة الأحد الماضي، باليوبيل الفضي، لمرور خمسة وعشرين عامًا علي قيام المجلس الأعلي للقضاء صاحب المقام الرفيع، بعد أن عاد إلي الوجود منذ عام 1981 بالقانون رقم 1984/35، إعلاء وترسيخًا لمعني الاستقلال، وتعزيزًا للحصانة ورمزًا للعدل، ويوجه القضاة ممثلين في مجلسهم الأعلي وبدعوة من المستشار عادل عبد الحميد رئيس محكمة النقض ورئيس مجلس القضاء الأعلي.. إلي رئيس الجمهورية لحضور الاحتفالية. ثم يبادر رئيس الدولة فيحرص علي الحضور رغم مسئولياته ومشاغله، ولتتخذ الاحتفالية مكانًا لها في دار القضاء العالي.. ويختار قاعة عبد العزيز باشا فهمي أول رئيس للنقض عام 1931 رمزًا تاريخيًا للماضي العريق للقضاء المصري.. ويلقي رئيس النقض كلمة باعتباره صاحب الدعوة.. ثم يلقي الرئيس كلمة في هذه المناسبة كرئيس للدولة.. ورئيس لكل المصريين، فإن هذه المناسبة تحمل من الكلمات والمعاني الكثير. أول هذه المعاني التي تعبر عنها الاحتفالية تقدير الدولة بكامل سلطاتها .. وشعبها - علي مدي التاريخ - لرسالة القضاء .. ورجاله العظام، وإنه إذا ما كانت قد ضلت الطريق فترة في ظروف قاسية، إلا أن عادت أكثر شموخًا وقوة.. تحمل لنا الدروس والعظات.. لأن القضاة قد رفضوا عام 69 ويرفضون أن يكون لهم موقع في معارك السياسة أو تياراتها وما يحمله من الخبايا والاتجاهات أو حتي في أي دائرة من دوائر الحكومة التي كثيرًا ما تكون طرفًا في الخصومات القضائية.. لأن العدالة تتأبي أن تنحاز.. أو أن تضع نفسها موضع الشكوك أو الشبهات والأقاويل. من تلك المعاني كذلك التي تعبر عنها الاحتفالية مفردات الكلمات الرصينة والوقورة التي ألقاها الرئيس في الاحتفالية والتي أتت علي قدر المناسبة، فلقد حملت تقدير الدولة للقضاة والمباهاة والاعتزاز واحترام العدالة، وأن قضاء مصر سيظل دومًا حصنًا للعدالة وحاميًا للدستور.. وأن القضاة يحملون رسالة العدل وترسيخ المساواة أمام القانون.. وحفظ استقلالهم، وأنه لا سلطان عليهم لغير القانون والضمير وأن استقلال السلطة القضائية ليس منحة من أحد وأنه يتعين الدفاع عنه في مواجهة أي تهديد لحياد القاضي ونزاهته. من تلك المعاني والكلمات.. أن شئون القضاة يجب أن تكون بيد القضاة أنفسهم، وأنه لا يصح أن تكون مسرحًا للتنابذ والاختلاف خارج نطاق مجالس القضاة وهيئاتهم القضائية.. كل ذلك ترسيخًا للتقاليد العريقة التي حفظت سمعة القضاة علي مدي التاريخ، فكانت مدوية بين العالمين، علّت بها مقام شأن القضاة ثقة واحترامًا ومهابة في نفوس الناس. كذلك كانت كلمات الخطاب ومعانيه وقد اتسمت بالبعد عن لغة السياسة أو الحديث في دوائرها.. أو إقحام القضاة في القضايا أو الألغاز السياسية.. حتي يحفظ الرئيس عليهم حيدتهم وهيبتهم والبعد بهم عن أية تيارات عقائدية أو سياسية أو أية مصالح حقيقية لأفراد أو جماعات.. فكان الخطاب من رئيس الدولة قدوة البلاد في حضرة السلطة التنفيذية.. والسلطة التشريعية.. لهذا كانت كلمات رئيس الدولة بعيدًا عن قضايا الدولة ذاتها.. تأكيدًا والتزامًا بأن استقلال القضاء وحصانته منهج في الحكم يتعين الالتزام به إيمانًا ويقينًا ودستورًا. ومن الكلمات والمعاني ذاتها التي عبر عنها قاضي القضاة وألقاها المستشار عادل عبد الحميد رئيس مجلس القضاء الأعلي، ورئيس محكمة النقض، بهذه المناسبة.. تأكيدًا والتزامًا برسالة القضاء.. وأن إقامة العدل في أي مجتمع لا تتحقق إلا بقيام سلطة قضائية محايدة.. وأن استقلال القضاء إحدي الركائز التي تقوم عليها نهضة الأمم والحفاظ علي المجد والرخاء والاستقرار.. وأن العدل هو أسمي القيم الإنسانية وصفة من صفات الله سبحانه وتعالي.. ومبعث سكينة المجتمع واستقراره.. وأن ذلك كله لا يتحقق إلا بقضاء عادل. كذلك كان التزام الأقدمية.. في الدعوة.. وفي الجلوس .. والحديث مظهرًا وقورًا مألوفًا لأنه من تقاليد القضاة الراسخة التي تجري في عروقهم.. وهم يحملون رسالة العدل .. جالسين في منصتهم العالية.. يخاطبون المتقاضين .. ويتداولون القضايا.. ويحكمون بين الناس ولسوف تظل تلك المعاني المهمة التي اطلقتها الاحتفالية.. وأعلت شأن المهابة والوفاء ورسخت تقاليدها العريقة.. تأكيدًا للاستقلال.. والحياد.. لتكون شئونهم بيدهم.. ولا تكون محلاً لتناول الإعلام أو مسرحًا للتنابذ أو الخلاف.. إنها حقًا رسالة.. عبر عنها القضاة أنفسهم بالارتياح والتقدير والحكمة.. فكانت كلمة الرئيس إلي القضاة في احتفاليتهم بالاستقلال.. ومن القضاة إلي القضاة ومنهم جميعا إلي الإعلام والناس أجمعين .. اتسمت بالحكمة والعقل والإنصاف. هذه الكلمات الوقورة والرصينة في تلك المناسبة الغالية ينبغي ألا تمر علينا مر الكرام.. لأنها تعني التزامًا دستوريًا لجميع سلطات الدولة وللقضاة جميعًا وهاديًا لهم علي مر الزمان حتي نظل دومًا نقول وبأعلي صوت إن في مصر قضاة.