الجو كان خانقا رغم برودته خارج المبنى الكالح، رائحة الرطوبة المنبعثة من الجدران المتآكلة التى تتساقط منها ذرات الغبار فوق الأوراق المكدسة على الأرفف الخشبية التى تنتظر دورها فى السقوط عند أقرب فرصة، كما سقطت قبلها قواعد فنون العمارة فى تصميم مبانى المحاكم. على الرغم من المشهد المهيب لمبنى دار القضاء العالى فإن الوضع داخله مختلف، خاصة فى الطابق الثالث والبدروم.. ملفات وأوراق قضايا ملقاة على الأرض رغم ما تحتويه من أوراق خاصة بالمواطنين، فى انتظار بقايا سيجارة مجهولة المصدر أو ماس كهربائى لتشتعل. لا تختلف درجة الإهمال فى محكمة جنوبالقاهرة عن محكمة تاج الدول -فى شارع تاج الدول بالكيت كات- عما يحدث فى محكمة شبرا التى يعقد القضاة فيها جلساتهم فى غرف المداولة نفورا مما يحدث فى قاعتها التى يعف لسان بعض القضاة عن ذكر مايحدث فيها، مع أن هذه المحاكم تقع فى قلب العاصمة التى تضم فى الوقت نفسه وزارة العدل التى يقع فى دائرة اختصاصها الاهتمام بتلك المبانى من خلال صندوق أبنية المحاكم الذى يمول من رسوم التقاضى، والذى يصل وفقا لتقارير وزارة العدل إلى 12مليون قضية فى العام. المستشار محمد حامد الجمل رئيس مجلس الدولة السابق، يؤكد أن صمت القضاة على هذه الأوضاع غير مبرر، وبعض منهم قام برفع العديد من التوصيات من خلال الجمعيات العمومية للمحاكم لوزارة العدل، ولكن فى الحقيقة، إن الأمر يتوقف عند كونها مجرد توصيات يضيع أثرها مع جفاف حبر القلم الذى كتبها. أصحاب المصلحة تفرغوا لإدارة معارك وهمية، وقودها البيانات والتصريحات، بينما الأمور فى قاعات المحاكم وخارجها كارثية -هكذا يراها ناصر أمين مدير مركز استقلال القضاء - متهمون يقضون حاجتهم فى قفص الاتهام، أعضاء نيابة ومستشارون مكاتبهم ملاصقة لدورات المياه -إن وجدت- ففى بعض الأماكن يعتبر وجودها نوعا من الترف. لذلك يؤكد الجمل أن هناك بعض المحاكم لا ترقى لتكون اسطبلات، خاصة محاكم الأقاليم، وإن كانت هناك تجربة حدثت فى الماضى، لتطوير المحاكم عن طريق منحة قدمتها هيئة المعونة الأمريكية لوزارة العدل لتطوير المحاكم، ولكن هذه التجربة لم يستفد منها إلا ثلاث محاكم فقط هى: شمال القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية، بينما فى محكمة الدخيلة التى يوجد بها 24وكيل نيابة و6 قضاة لا توجد بها دورة مياه واحدة، بل يعتمدون فى قضاء حاجتهم على مبنى نقابة المحامين المجاور، بلا تجن إن وزارة العدل هى المسئولة عن هذه الأوضاع المأساوية التى يعانى منها القضاة وأعضاء النيابة والمحامون والجمهور، قد لا يكون هذا هو النموذج الوحيد لمحاكم شمال الجمهورية، التى جاء ذكرها على لسان المستشار حامد الجمل، بينما جاء نموذج جنوبها ليضفى عليها مزيدا من الرعب عندما قال إن هناك محاكم فى صعيد مصر، خاصة محاكم قنا وأسوان بالتحديد تشبه بيت الزواحف، ثعابين وقوارض وغيرها من الحشرات حتى إن العاملين بها يلجأون إلى الرفاعية لإخراج الثعابين من ملفات القضايا والتى يستخدمها العاملون أحيانا لسد الجحور والشقوق فى جدران المحاكم. الجمل لم يكتف بأن يسوق تلك النماذج المؤسفة لقصور العدالة فى مصر بل أضاف أيضا أن استراحات القضاة فى الأقاليم تعانى من نفس المشاكل بنفس درجة تردى المحاكم وربما أسوأ، ولكن شيئا من عزة النفس وقيودا أخرى منعت العديد من القضاة عن الحديث -كما قال المستشار محمود الخضيرى نائب رئيس محكمة النقض- فمن خلال رحلته المهنية وتنقلاته بين المحاكم كان شاهد عيان على العديد من الأمور التى وصفها بأنها أصبحت «سبة» فى جبين القضاء المصرى، والمشكلة كما يرى الخضيرى، أن هذه المشاهد غير اللائقة طالت مبنى دار القضاء العالى فيكفى أن تصعد إلى الدور الثالث لترى أوضاعا لاتليق، بلا مواربة يرى الخضيرى أن المحاكم بحاجة إلى وقفة جادة لانتشالها من تلك الأوضاع وفى الوقت نفسه يرفض أن تكون زيادة الرسوم القضائية هى وسيلة وزير العدل لتمويل صندوق أبنية المحاكم، ويرى أن هذا الصندوق يجب أن يدار باستقلالية تامة بعيدا عن الوزارة، وهو المطلب الذى أكد عليه أيضا ناصر أمين مدير مركز استقلال القضاء. ربما كانت القيود المهنية التى ساقها المستشار الجمل، سببا فى التزام القضاة الصمت عن الأوضاع فى المحاكم المصرية، لكنها كانت من أهم الأسباب، التى دفعت محمود رمضان رئيس حركة «محامون ضد الفساد»، ليقوم بإرسال إنذار على يد محضر إلى المستشار ممدوح مرعى وزير العدل، عن طريق محكمة السيدة زينب الجزئية. مشيرا إلى أن المحاكم تتحمل فوق طاقتها نتيجة للزيادة الرهيبة فى عدد القضايا، مما يجعل من الاستحالة تحقيق العدالة فى الوقت المناسب، خاصة أن هناك محاكم تنظر حوالى 500 قضية فى الجلسة الواحدة، رضوان كان دافعه الأول -كما ذكر- هو أوضاع المبانى إضافة لإهمال بعض الموظفين فى حفظ ملفات القضايا مما يعرضها للحريق فى أى وقت يريدون فيه حرق ملفات المحكمة ككل وهذا يعرض حقوق المواطنين للضياع، والتأثير على صرح القضاء بمصر.