تعد الثقافة إحدي الصناعات البشرية التي ترتبط بالإنسان الزمان والمكان, وهذا التفاعل يؤدي إلي إحداث العديد من التحولات الثقافية التي نشهدها من حولنا الآن. ولدراسة هذه التحولات هناك أربعة متغيرات ذات دلالات متنوعة, أسهمت في إحداث تغيير في الثقافة السائدة, ودلالاتها علي منظومة القيم في مصر. أول هذه المتغيرات هي الهجرة من الريف إلي الحضر, إذ قد شهد النصف الثاني من القرن الماضي, زيادة كبيرة في نسبة الهجرة من الريف إلي الحضر, قدرت عام1950 ب32% من عدد السكان, وارتفعت هذه النسبة في عام1960 إلي38%, وفي عام2000 وصلت إلي46%, واليوم تجاوزت ال50%, ومن المتوقع أن تصل مع نهاية الربع الأول من هذا القرن لحوالي70%. وهذا يعني أن المجتمع يتجه نحو المجتمعات الحضارية, وهذا التوجه جاء نتيجة عدة عوامل أولها الارتباط بحلم اقتصادي مشرق, يؤدي إلي زيادة الدخل ورفع مستوي المعيشة. وثاني هذه العوامل هو السعي لتحقيق حلم اجتماعي مرتبط بالتحديث وليس بالحداثة, وهو ما يعني الانتقال من طبيعة المسكن والمأكل ونمط الحياة الحالية, إلي مستوي آخر من الحياة متوفر في بيئة حضارية جديدة, والعامل الأخير هو تحقيق حلم سياسي, بمعني المشاركة السياسية الأوسع, والمشاركة في العديد من التفاعلات السياسية. هذه العملية نتج عنها ما يمكن تسميته بالمجتمعات العشوائية التي تقع داخل نطاق بعض المدن الكبري, والتي أفرزت العديد من المتغيرات الثقافية التي جاءت نتيجة تبخر الحلم الاقتصادي داخل هذه العشوائيات, وظهور نماذج جديدة غير تقليدية للفقر, تختلف كثيرا عن الموجودة في الريف. أيضا تراجعت فكرة التحديث, وبالتالي حدث تحول خطير أوجد لدي هذه الشريحة من المجتمع رغبة شديدة في العودة إلي الدين, والهروب من حلم الأرض إلي حلم السماء, مع الشعور بالحنين إلي الماضي. ثاني المتغيرات التي أسهمت بوضوح في احداث تحول ثقافي هو الهجرة للخارج, وهناك نموذجان للهجرة, أحدهما الهجرة إلي دول الخليج, والآخر الهجرة إلي دول الغرب. وكلا النموذجين ضم شرائح عديدة من المصريين مسلمين ومسيحيين. فالهجرة إلي الخليج ارتبطت بمجموعة من المتغيرات الهامة, من أبرزها الثقافة البدوية, وأنا هنا لا أقصد أنها ثقافة سلبية, بل ثقافة مختلفة عن ثقافتنا. فمعظم بلدان الخليج مبنية علي ما نسميه الاقتصاد الريعي, وهو نوع من أنواع الاقتصاد ذات دلالات ثقافية هامة علي حياة الأفراد. فهناك فرق بين العملية الاقتصادية التي تتطور نتيجة زيادة حقيقية في مستوي الدخل بالنسبة للأفراد, وتساهم في احداث متغيرات حقيقية داخل البنية الاقتصادية للمجتمع, وبين الاقتصاد الريعي الذي يعتمد علي ناتج البلاد من الموارد الطبيعية مثل البترول وغيره, والتي تتوافر في هذه البلدان. وهذه الدول كانت ومازالت ذات توجهات دينية خاصة, وأيضا ذات منظومة معينة من العادات والتقاليد التي تختلف والمنظومة التي نعيش عليها هنا. كل ذلك أحدث تأثيرا مباشرا في منظومة التحولات الثقافية المصرية المعاصرة. وعلي الجانب الآخر, الهجرة إلي الغرب والتي تضم مسلمين ومسيحيين, لكنني هنا أتحدث فقط عن هجرة المسيحيين, فهي ذات مشكلة خاصة تتمثل فيمن يطلقون علي أنفسهم أقباط المهجر, ففي اعتقادي أنهم حاولوا اختطاف نظام سياسي في الغرب, ومحاولة تطبيقه في ثقافة مغايرة. معلوم أن النظام السياسي في الغرب مبني علي مجموعة من المعطيات السياسية المرتبطة بأنساق وسياقات ثقافية خاصة مثل فكرة حرية التعبير عن الرأي, والنقد, وخلافه. كلها معطيات ذات سياق ثقافي معين ناتج عنه نظام ديمقراطي. هنا أقول إنه عندما يرتبط الاحتجاج بفئة دينية معينة, فهي تعني محاولة مباشرة أو غير مباشرة لخلط الدين بالسياسة, وهو أشبه بما تحاول أن تقوم به جماعات الاسلام السياسي من خلط الدين بالسياسة. أما المتغير الثالث من المتغيرات التي نتحدث عنها فهو قضية الحكم الصالح, وهي قضية تقوم علي مبادئ ثلاثة هي: الديمقراطية الشفافية المساءلة. الديمقراطية تعني أن أغلبية وأقلية يعملان بطريقة ديناميكية في إطار من المصالح السياسية للجماعة مثل: تداول السلطة, ووجود انتخابات حرة, ومنافسة شريفة. أما الشفافية فهي قضية أكثر حساسية لأنها تتعلق بالأموال والمعلومات, وترجع درجة أهميتها لأنها لا تتعلق فقط بتوفير الأموال والمعلومات, لكنها تتوقف علي زمن توفيرها. ففي لحظة من اللحظات قد يتأخر زمن إتاحة المعلومة للأفراد, مما ينتج عنه حدوث مشكلة ما قد تضر بالمصلحة العامة أو الخاصة, أو قد لا تفيد في شئ, ونفس الشئ بالنسبة للأموال. والمساءلة تعني عملية المتابعة والتقييم المستمر, والتي ترتبط في النهاية بسياسة الثواب والعقاب. عملية الحكم الصالح لا ترتبط فقط بالدولة, بل يجب أن تمتد إلي مجالات أوسع مثل مؤسسات المجتمع المدني, والمؤسسة الدينية المسجد والكنيسة والجامعات الأهلية والخاصة والنقابات وحتي إلي بعض شركات القطاع الخاص.. وغيرها, وهذا يعني أنها قضية مجتمعية. المتغير الأخير من المتغيرات الأربعة التي نتحدث عنها هو سماحة النص وجمود التفكير. فالنص مقدس وسمح, لكن المشكلة في جمود التفسير للنص المقدس. وهذا الجمود نجده في الإسلام والمسيحية معا. ففي مصر هناك تجميد للنص الديني مع محاولة البعض اختطافه من سياقه الاجتماعي والثقافي, وهذه قضية شديدة الخطورة, لأن هناك بعدا تاريخيا للنص, وإمكانية تطبيقه اليوم تختلف عن سابقه, وهنا نجد المشكلة التي كثيرا ما يقع فيها نجوم الفضائيات من المسلمين والمسيحيين, وهي محاولة التطابق ما بين المفسر والنص!! كل هذه العوامل وغيرها اسهمت بشكل أو بآخر في إيجاد مجموعة من المفاهيم التي سادت علي الثقافة, وأسهمت في تغيير منظومة القيم, أذكر منها علي سبيل المثال, شيوع ما يسمي بثقافة الفهلوة في غياب قيمة العلم والعمل. وأيضا التدين الظاهري, والفصل ما بين العقيدة والفعل. مثل هذه المتغيرات أفرزت غياب القدوة, واهتزاز مفهوم الولاء والانتماء. وهنا أؤكد أننا نحتاج إلي مشروع قومي مصري جديد, أي مجموعة جديدة من الأهداف المشتركة التي نسعي إليها معا, وبالذات الأهلية وإعادة تفسير وقراءة النصوص الدينية من خلال الواقع الذي نعيش فيه. وأيضا وجود مشروع يربط عملية التحديث والتغيير الاقتصادي والاجتماعي, بالتغير الثقافي لواقع المجتمع.