يعيش المصريون الآن حالة من القلق والترقب لم يعرفوها منذ مطلع العصر الحديث; فقد مروا بتجارب وخبرات عديدة سابقة كان الهدف فيها واضحا والعدو فيها بارزا, وفي تاريخ ثوراتهم كانت الثورة قادرة إما علي تحقيق أهدافها وحققتها, أو عجزت عن ذلك فخمدت وانتظرت اللحظة المناسبة لتحقيق الهدف. أما اليوم فالمصريون قد قاموا بثورة غير مسبوقة في التاريخ سواء في آلياتها أو في مفاجآتها للقاصي والداني بل ربما لبعض المصريين أنفسهم, وقد كانت ثورتهم هذه المرة ضد استبداد الحاكم المصري نفسه وليس ضد حاكم أجنبي أو الغزاة المستعمرين, ولما حققوا النصر علي المستبد كانت آمالهم عريضة ومساحة التفاؤل لديهم كبيرة بأنهم قادرون علي تحقيق بقية الأهداف بسهولة لأن الشعارات المرفوعة محددة وواضحة( حرية عيش كرامة إنسانية عدالة اجتماعية) والطريق إليها بدأوه بتحقيق نصر مبين خلال ثمانية عشر يوما فقط, فما الذي يقف عائقا أمام تحقيق بقية الأهداف؟ ذلك كان حال كل المصريين في الأيام التالية علي رحيل مبارك, فما الذي غير الحال وأحل التشاؤم محل التفاؤل, لاشك أن أسبابا عديدة أوصلتهم, إلي هذه الحالة, لعل أهمها أنهم أصبحوا يخشون تجذر الانقسام بين الأحزاب والقوي السياسية, ويخشون السيطرة الكاملة لفصيل الإخوان المسلمين علي الدولة, ودفعهم لأهل الثقة علي حساب أهل الخبرة. وبداية أود تأكيد أن مصر الدولة لاتنهار ولا يمكن أن تنهار, فالمصريون الذين بنوا أول حضارة في التاريخ عمادها دولة مستقرة مركزية ذات سيادة وهيبة, ألهمت وعلمت العالم معني الدولة وكيفية بناء الحضارة والمدنية لايمكن أن يسمحوا بذلك, ولا يمكن أن ينقادوا إلي ما يضر بلدهم ويهز أركان دولتهم المهيبة والمهابة عبر التاريخ. إن إمكانات مصر البشرية والمادية وموقعها الجغرافي الفريد وريادتها في المنطقة لا يمكن أن تهتز نتيجة بعض الخلل الاقتصادي والأمني; ولعل تاريخنا القريب يشهد علي ذلك. وفي اعتقادي أننا نحتاج لإعادة النظر في خطابنا اليومي سواء كان خطاب النخبة أو خطاب العامة,فقد غلب علي هذا الخطاب نبرة التحدي والرفض للآخر بدلا من التسامح معه والقبول به أيا كان فكره وأيا كان انتماؤه السياسي أو الديني, وغلبت عليه لغة التخوين وتوزيع الاتهامات من الجميع إلي الجميع. والحقيقة التي ينبغي أن يعيها القائمون علي الأمر أن تغيير لغة الخطاب هذه مرهون بهم هم وبلغة خطابهم, حيث غلب عليها الإقصاء بدلا من الدعوة الصادقة إلي المشاركة, غلب عليها التعالي والمغالبة بدلا من التواضع والاعتراف بالخطأ. إن خطاب السلطة ينبغي أن يتسم بالتواضع وإعلاء القيم الأخلاقية قولا وفعلا, والالتزام بمبادئ الحوار الإيجابي البناء الذي يسعي لتحقيق النتائج الإيجابية للجميع وليس لمصلحة صاحب السلطة فقط. كما إن خطاب السلطة ينبغي أن يعترف بأنه أعطي الأولوية في المرحلة السابقة والحالية لأهل الثقة علي حساب أهل الخبرة ولا يكتفي في ذلك بالأقوال والاعتذارات الشفهية, بل ينبغي أن تأتي الأفعال مواكبة بل في حالتنا هذه سابقة علي الأقوال حتي تعود الثقة بين الشعب والسلطة. وحينما تتسق في خطاب السلطة الأقوال مع الأفعال وتعود لغة خطابها إلي العقلانية وإعلاء مصلحة الشعب علي مصلحة الحزب والجماعة والشلة ويري الناس نتائج ذلك علي الأرض, حينذاك سنجد بالضرورة أن خطاب الشعب قد تغير ليتوافق مع خطاب السلطة ويعود الكل في واحد من جديد. إن علي الدعاة الجدد, سواء كانوا ينتمون إلي جماعة الإخوان أو إلي جماعات السلفيين أو الجهاديين أو غير هؤلاء وأولئك من التيارات الإسلامية التي قفزت إلي الواجهة بفضل ثقة الشعب الذي منحهم الأصوات أملا في أن يقودوا التغيير إلي الأفضل, أن يراعوا ضمائرهم ويعيدوا تأمل خطابهم الدعوي في الفترة السابقة ليجدوا أنه كان خطابا صادما وصارما وداعيا إلي الفرقة والانقسام والتمييز بين طوائف الشعب, فضلا عن أنه في كثير من الأحيان كان مخالفا للشريعة الإسلامية السمحة الداعية إلي الوفاق والتآلف والاستقرار والتعاون, لقد غاب عن خطاب الإسلاميين خطاب وقيم التقدم التي دعا إليها الإسلام, وأقام عليها المسلمون الأوائل حضارتهم الرائعة التي سادت العالم وصدرت صور التقدم الفكري والعلمي والسياسي والاقتصادي والاداري إلي الغرب المتخلف, ومنه بدأت نهضته الحديثة وتخلفنا نحن, لأن أجدادنا لم يواصلوا التمسك بها واستبدلوها بقيم التخلف ووأد الاجتهاد والتصارع علي المصالح الدنيوية الفانية. وهكذا يفعل الآن من يدعون أنهم وحدهم أصحاب المرجعية الإسلامية; إنهم يتخذون من الدين ستارا لتحقيق أهداف سياسية خاصة وليس لتحقيق تقدم حقيقي كان ينتظره الجميع منهم. لقد استعان المسلمون الأوائل بالمترجمين والعلماء اليهود والمسيحيين في بناء النهضة الإسلامية وهم يحاولون الآن اقصاءهم وتخويفهم وبث الرعب في قلوبهم. إن تغيير لغة الخطاب خاصة من قبل الإسلاميين, إلي خطاب نهضوي يدعو إلي قيم التقدم من خلال التركيز علي جوهر الدين وإعلاء مصلحة الأمة أصبح ضرورة ملحة تلخصها عبارة واحدة هي: إما أن يفعلوا ذلك ويلاقوا الترحيب من عامة الشعب وخاصته, وإما أن يعودوا إلي السكون والتخفي مرة أخري. المزيد من مقالات د. مصطفي النشار