ما زال عمر التجربة الديمقراطية في مصر قصيرا للحكم عليها. وما زالت عوامل عدم الاستقرار والانقسام هي المهيمنة علي المشهد السياسي. كما أن الانتهاء من الاستفتاء علي الدستور وإقراره لم يؤد الي حالة التوافق المرجوة أو الرضاء السياسي والاجتماعي بمعناه الواسع. صحيح ان السلطة التي يمثلها الإخوان الآن( حزب الحرية والعدالة ومعه الأحزاب والقوي الاسلامية المختلفة) ماضية في طريقها الذي حددته, الا أنه في المقابل لم تزل المعارضة التي تمثلها الاحزاب والقوي المدنية علي حالها ايضا وعلي اتهامها للحكم باتباعه سياسة اقصائية للانفراد بالسلطة سواء التنفيذية أو التشريعية بعد تحويل مجلس الشوري الذي لم ينتخب كمجلس تشريعي الي مؤسسة تشريعية ضم اليها90 من المعينين كا ن نصيب من هم خارج التيار الاسلامي ضئيلا وغير ممثل لاتجاهات سياسية أو فكرية حقيقية. كذلك مازالت خلافات الحكم مع السلطة القضائية قائمة بقوة ومرشحة للتصعيد. وليس الإعلام بأفضل حال فهناك صدام وتربص واتهامات متبادلة يضاف الي ذلك ما شهدته مؤسسة الرئاسة ومن بعدها الحكومة, من سلسلة استقالات لمستشاري الرئيس ومعاونيه, وكلها استقالات مسببة سياسيا اعتراضا علي سياسات الحكم ليضيفوا الي المعارضة المعروفة نمطا آخر من المعارضة أو الاحتجاج. اذن الاستقطاب ما زال حادا والحوار بين الحكم والمعارضة ما زال شكليا وليست له أجندة واضحة. وربما ما ساهم به إقرار الدستور هو تأجيل المواجهات وليس حلها, فاحتمال اللجوء الي المظاهرات والحشود مازال موجودا قد تشعله أي ازمة قريبة, خاصة أن الوضع الاقتصادي ليس أفضل حالا من الوضع السياسي. فكل الامور تسير فوق رمال متحركة. وفي ظل هذه الأوضاع دائما ما يتجدد الحديث عن النموذج الذي تمضي اليه ليس شرطا بالتطابق ولكن من حيث توجهه العام. ولذلك ليست مصادفة ان تركز اغلب التقارير الأجنبية ومراكز البحوث المتخصصة علي ذلك الجانب تحديدا حيث الرؤية الواضحة ما زالت غائبة. ففي بداية ثورات الربيع العربي وفي الصدارة منها حالة مصر, كان الحديث متواترا حول النموذج التركي باعتباره النموذج المثالي في نظر الكثيرين للحكم الاسلامي المعتدل المنفتح داخليا وخارجيا والقادر علي استيعاب الحداثة وعدم الصدام مع المجتمع والدولة والمعارضة, أو علي الأقل القادر علي التوازن معها وعدم الانقلاب الجذري عليها. كما إن نجاح حزب العدالة والتنمية قام علي إنجاز اقتصادي واجتماعي و نهوض بالمحليات و الاداء العام مكنته من الحكم دون أزمات أو احتجاجات عنيفة. إلا أنه مع مرور الوقت بات هذا النموذج يبتعد تدريجيا عن واقع المجتمع المصري ما بعد الثورة, فالأحزاب والقوي الإسلامية المصرية ليست هي العدالة والتنمية ولا تعبر عن خياراته السياسية والفكرية. كما ان طبيعةالدو لة والمجتمع التركي ذو التراث العلماني المستقر لا تبدو تجربة قابلة للتكرار, كذلك الحال بالنسبة للمؤسسة العسكرية التي حملت هذا التراث و حمته علي مدي ما يزيد علي السبعين عاما, لها أيضا خصوصيتها. لهذه الاسباب لم تعد تركيا هي النموذج انما بات الحديث مكثفا حول نموذج آخر وهو باكستان فالأخيرة لا تعبر عن نفس حال تقدم و استقرار الحالة التركية ورسوخ تجربتها في التحديث والتوافق علي هوية الدولة والتمسك بها. فعلي مدي ما يزيد علي ستين عاما هي عمر الدولة الباكستانية ما زالت الصراعات والانقسامات ما بين طائفي أو إسلامي/ علماني أو مدني/ عسكري, هي المسيطرة علي المشهد. فالمعروف ان الهوية الدينية اختلطت بالهوية الوطنية منذ تأسيس الدولة بعد انفصالها عن الهند وهو ما اعطي للاتجاهات والقوي الاسلامية دورا محوريا وكذلك الحال بالنسبة للجيش الذي يعد مؤسسا فعليا لدولة باكستان ولذلك فقد استمر في الحكم منذ ذلك التاريخ سواء بشكل مباشر أو غير مباشر, وان كان ذلك لم يمنع من ظهور أحزاب علمانية و مدنية أسهمت في تشكيل التجربة الباكستانية الحالية علي رأسها حزب الشعب الذي أسسه ذو الفقار علي بوتو عام1967 وخلفته ابنته بينظير بوتو التي اغتيلت عام2007 ليخلفها زوجها آصف علي زرداي وهو الحزب الحاكم الآن والذي دخل في صراع طويل ممتد قبل أن يصل إلي السلطة مع الجيش والقوي والاحزاب الإسلامية عموما واتهم نظام برويز مشرف العسكري السابق في الضلوع في اغتيال زعيمته, بعبارة أخري ان وصول هذا الحزب الي الحكم جاء عبر صراعات مسلحة وليس نتيجة طبيعية لتطور نظام ديمقراطي تعددي سلمي. وبغض النظر عن تلك الظروف الاستثنائية فإن السمة المميزة لنموذج باكستان ظلت متمركزة حول الدور المحوري للجيش الذي ظل هو المؤسسة الوحيدة القوية في ظل ضعف الأحزاب وانقساماتها وفي ظل المحاولات الانفصالية التي ما زالت تشهدها باكستان لذلك اصبح الجيش معامل التوازن أو العامل المشترك في جميع العهود التي حكمت النظام السياسي, فقد تحالف مع القوي الإسلامية بجماعاتها المسلحة حتي عهد الجنرال ضياء الحق(1977-1988) ثم تواري قليلا عن المشهد السياسي قبل ان يعود اليه مع وقوع الانقلاب العسكري الذي قاده برويز مشرف عام1999 خلفا لحكومة مدنية قادها نواز شريف ومازال دور الجيش مستمرا بعد تعاونه مع الحزب الحاكم الحالي( خصمه السياسي التاريخي) بعد تغيير قيادته. باختصار نموذج باكستان الذي يستحضره البعض الآن و تزخر به الكتابات الأمريكية هو نموذج لهذه العلاقة المركبة بين السلطتين المدنية والعسكرية التي تتخذ أشكالا عدة من التحالف الي الصراع الي التعاون الاضطراري, والتي يظل للجيش الدورالمؤثر في سير العملية السياسية. يبقي القول إن الحديث عن النماذج لا يعني نقلها حرفيا ولا إمكانية تطبيقها بنفس الدرجة أو الوسائل في جميع الحالات, وانما يثار الجدل حولها بحكم الفترات الانتقالية المعروفة بعدم الاستقرار, و في كل الأحوال فإن باكستان ليست نموذجا مثاليا. المزيد من مقالات د . هالة مصطفى