أيا ما كان الموقف من الدستور, فإن الديمقراطية تقضي بقبول حكم الشعب عليه, بعدما دفع بالبلاد إلي حافة الهاوية نتيجة لصراع سياسي لا علاقة للثورة به, زعم أطرافه الحديث باسم الشعب, بينما وجه الأخير رسالة صريحة بتمسكه بنتائج العملية الديمقراطية مع قدرته علي تقويمها دون الحاجة في المرحلة الراهنة إلي تغيير ثوري خارج إطار الشرعية. ولعل الدرس المستفاد من الأزمة الأخيرة هو ضرورة هندسة المشهد السياسي علي نحو ديمقراطي, ينتقل بالثورة إلي الدولة ويتجاوز الشخصنة إلي البرمجة ويعبر الشارع إلي لجان الانتخابات, وذلك من خلال تكوين ثنائية حزبية تتناوب علي حكم البلاد وفقا لاختيارات الناخبين من خلال صناديق الاقتراع. ففي الديمقراطيات الراسخة, ورغم وجود عدد من الأحزاب, فالحياة السياسية يقودها سجال تاريخي بين حزبين كبيرين يمثلان رؤيتين متباينتين للفرد والمجتمع والدولة والعالم, ويحتويان داخلهما أطيافا عدة تتنافس من أجل تلوين المجال العام برؤاها والوصول إلي الزعامة الحزبية ثم إلي سدة الحكم, العمال والمحافظون في بريطانيا, الديمقراطيون والجمهوريون في الولاياتالمتحدة, الاشتراكيون والقوميون في فرنسا, كلها أمثلة علي ثنائيات أيديولوجية تحكم الحياة السياسية في الغرب, وحتي خلال الحقبة الليبرالية المصرية, وعلي الرغم من تسيد حزب الوفد بتوجهاته الليبرالية اليسارية لصناديق الاقتراع, فقد برز حزب الأحرار الدستوريين ليمثل رؤية مغايرة من منظور واقعي يميني. نظرة سريعة علي برامج تلك الأحزاب كافية للاعتقاد بأن الثنائية السياسية تقوم علي معيارين: الأول أفقي برجماتي يجسد تضارب المصالح بدرجة كبيرة والقيم بدرجة أقل بين الطبقات الاجتماعية المختلفة, والآخر رأسي أيديولوجي يمثل تباين القيم بدرجة كبيرة والمصالح بدرجة أقل بين الطوائف والقطاعات المهنية وغيرها. فالأحزاب ذات الخلفية اليسارية( الديمقراطيون والعمال والاشتراكيون والوفد القديم) تستند أفقيا إلي جمهور عريض من الطبقات الكادحة, ورأسيا إلي الأقليات وقطاعات من المثقفين ذوي النزعات الطوباوية( وربما ذوي الميول العنيفة, كتلك التي انتهجتها بعض الحركات اليسارية الأوروبية في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم) فضلا عن المنتمين إلي بعض القطاعات المهنية كصغار موظفي القطاع العام وغيرهم من ذوي الأجور الثابتة الذين يتشبثون بحقهم في التأمين الصحي والعقاري والضمان الاجتماعي. علي النقيض, فالأحزاب ذات الخلفية اليمينية( الجمهوريون والمحافظون والقوميون والديمقراطيون المسيحيون والأحرار الدستوريون) تتكئ أفقيا علي شريحة محدودة ولكنها متنفذة من الطبقات الميسورة والثرية, ورأسيا علي الأغلبية العرقية أو الدينية أو اللغوية, وبعض المثقفين الواقعيين( وذوي التوجهات المحافظة عموما) بالإضافة إلي المنتمين إلي بعض القطاعات المهنية كالتجار والمستثمرين والمقاولين وغيرهم, ممن تعتمد دخولهم علي مناخ التجارة والاستثمار, وبداهة, فثمة تداخل بين مؤيدي التيارين, فالناخب المنتمي إلي الأغلبية الإثنية والطبقات الكادحة مثلا متردد بطبيعته بين تأييد التيار اليساري المدافع عن مصالحه والتيار اليميني الممثل لمبادئه. إذن فالصراع الإنساني الأبدي بين المبادئ والمصالح هو محرك لتداول السلطة, والحزب الذي يتمكن من تقديم توافق بينهما يستطيع الانفراد بالسلطة لأطول فترة ممكنة, علي الرغم من أنه لن يهيمن علي المجتمع, بمعني أنه لن يمكنه إقصاء الحزب المنافس إن كان فاعلا أو منعه من النشوء إن لم يكن موجودا. وباستعراض خريطة القوي السياسية المصرية, يبدو حزب الحرية والعدالة إلي حد ما تكرارا لمواءمة المبادئ والمصالح رغم أخطائه السياسية التي أدت إلي فقده قطاعا من مؤيديه باعتماده أفقيا علي تأييد من الطبقات المهمشة المستفيدة من خدماته الاجتماعية لما يزيد علي ثمانية عقود هي عمر جماعة الإخوان المسلمين التي انبثق منها الحزب, ورأسيا يحظي الحزب بتأييد نسبة غير يسيرة من المواطنين تعتبره زائدا عن هويتها ومنظومتها القيمية, ومن ثم يصعب علي وجه التحديد تصنيف الحزب بانتمائه إلي اليسار أو إلي اليمين, وعلاوة علي هذين الرافدين الرئيسيين للحزب, فثمة شريحة أفقية من الطبقات البرجوازية تتفق مصالحها مع الرؤي الاقتصادية للإخوان, فضلا عن شريحة رأسية من المثقفين المثاليين يعتنقون مرجعياتهم الأخلاقية. في المقابل, تعاني معظم التيارات السياسية الأخري من ضعف واضح, فهي غالبا إما أحزاب كرتونية موروثة عن النظام السابق أو تحاول تنظيم فلوله, أو أحزاب ولدت بعد ثورة يناير وما زال عدد منها قيد التأسيس, أو أحزاب تعتنق رؤي لا تعبر سوي عن فئات بعينها, أو تجمعات غير منظمة. وإذا ما صنفنا الحرية والعدالة علي وجه التقريب باعتباره تجسيدا لتيار يمين الوسط, فإن الساحة السياسية المصرية بحاجة إلي تبلور تيار يسار وسط يوفق بين الليبرالية السياسية والاشتراكية الاقتصادية فيما يعرف بالديمقراطية الاجتماعية بتبني المبادئ السياسية للثورة وهي الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية, ويتسم بحضور فاعل في المجتمع, ينعكس في حصة من مقاعد البرلمان, ومن ثم فرص متزايدة في الوصول إلي سدة الحكم. ويقتضي ذلك تجاوز الثنائية التي كشف عنها استفتاء19 مارس2011 بين ما يعرف بالتيارين الديني والمدني, والتي لا يقبلها سواد الشعب المصري المتدين بفطرته والمتمسك بمدنية الدولة بوعيه. ورغم أن عدم انفراد تيار بعينه بالسلطة يعد أملا في إيجاد نظام سياسي قائم علي الرقابة والتوازن بين كافة أفرع هذه السلطة, فإن ذلك لا يكون إلا باتحاد تيارات أخري علي أساس سياسي يوفق بين المعايير الأيديولوجية والبرجماتية السالفة الذكر, ويترفع عن الشخصنة داخل التيار الواحد والتي تفرز أحزابا هشة تموت بموت زعمائها, ويقضي علي التشرذم الذي عانته التيارات اليسارية والليبرالية خلال المرحلة الانتقالية, ويجسر الفجوة بينها وبين الجماهير من خلال طرح نفسها كفاعل اجتماعي قبل أن تفرض نفسها كمنافس سياسي.