يلاحظ كل من يتابع المشهد الراهن في مصر أن هذا المشهد يكتنفه قدر كبير من الغموض والارتباك. وتتجلي مظاهر هذا الارتباك في صدور الكثير من القرارات المتناقضة والمتضاربة في وقت زمني قصير, بل وفي لجوء من بيدهم زمام الأمور إلي طرق ووسائل بدائية ومشينة في مواجهة المعارضين لنهجهم السياسي, بدءا باتهامهم بالعمالة والخيانة وتلقي أموال من جهات أجنبية لهدم الدولة المصرية ومرورا بإقدامهم علي إطلاق النار علي المتظاهرين السلميين والمعتصمين وانتهاء بمحاصرة المحكمة الدستورية. لاشك في أن ما يحدث في مصر يحظي باهتمام الجميع, وتتعدي حدود الاهتمام رجل الشارع العادي والمتخصص لتشمل خبراء شئون الشرق الأوسط في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية الذين يعكفون بدورهم علي تفسير وتحليل ما يحدث بل وتوقع ما ستئول إليه الأمور. ويعد الكاتب والمحلل السياسي البريطاني جون برادلي المتخصص في شئون الشرق الأوسط من أبرز المحللين للواقع المصري والعربي. وقد اكتسب برادلي شهرته أخيرا بفضل أعماله الأكاديمية واسعة الانتشار التي أصبحت تدرس في كبري الجامعات البريطانية مثل جامعتي أكسفورد ولندن. ويعد كتاب مابعد الربيع العربي وكيف اختطفت الجماعات الإسلامية الثورات العربية والصادر في ديسمبر2011 من أبرز مؤلفاته السياسية. وقد ذهب برادلي عند قراءته للواقع المصري الراهن إلي أن الرئيس مرسي أحدث انقلابا إسلاميا بعد اصداره لمرسوم دستوري سمح له أن يتبوأ مكانة رفيعة غير مسبوقة تضمن له تحصين مختلف قراراته. عند النظر إلي التحليل الذي يقدمه الكاتب البريطاني نجد أن الرؤي التي يطرحها تتوافق إلي حد كبير مع رؤي من يتم اتهامهم حاليا من المعارضين بالعمالة والخيانة, كما يكشف التحليل أن الغرب يدرك جيدا أن دوائر صنع القرار في مصر أصبحت تتخبط في قراراتها علي نحو غير مسبوق وغير معهود في الشأن المصري.ويؤكد برادلي في تحليله: من المؤكد أن مصر تتحول الي دولة دينية وأن الأخوان المسلمين سيواصلون تنفيذ اجندتهم الخاصة فسيزيدون تطرف المجتمع بدءا من القاع, وسيعملون علي تطهير مؤسسات الدولة من اي اثر مدني. اما عن واشنطن وتل ابيب فلاتكترثان بكل ما يحدث في مصر ولايعنيهما من الأمر سوي الحفاظ علي السلام والحفاظ علي بنود معاهدة كامب ديفيد. لاشك في أن مطالعة الأدبيات السياسية اليهودية البريطانية تساعد كثيرا في فهم رؤية الغرب وإسرائيل للمشهد المصري الراهن, فكتب انشيل بفيفر في صحيفة ذي جويش كرونيكال التي هي من كبري الصحف اليهودية في بريطانيا ان المسئولين الإسرائيلين يقولون إن وجود مرسي هو أكبر انتصار لإسرائيل خاصة ان الأخوان المسلمين قاموا بدور الوساطة بين قادة حماس والاسرائيليين. ومن المؤكد أن إحساس دوائر صنع القرار حاليا في مصر بأن الغرب لا يبالي كثيرا بالشأن الداخلي المصري أوحي للبعض أنه من الممكن تمرير ما يشاء من سياسات حتي لو عصفت هذه السياسات بمصير الدولة المدنية. وكان لهذا الإحساس الزائف بغرور القوة أكبر الأثر في خروج جموع الشعب المصري في مظاهرات حاشدة تندد بكل المحاولات الرامية إلي إعادة انتاج ديكتاتوريات جديدة تتنافي مع روح العصر. ربما يتعين علي دوائر صنع القرار حاليا أن تتخلي قليلا عن صلفها وتعنتها وأن تدرك أن صرخة لا المصرية الآتية من أغوار التاريخ المصري ومن أغوار وجدان الشخصية المصرية القديمة قدم الزمان والشابة الفتية التي تقود مظاهرات الرفض في الشارع المصري, وصلت عبر الفضاء الافتراضي الي صانع القرار في الجانب الغربي. وقد أذهل تدفق ملايين المصريين علي لجان الانتخابات في ظل جو قارس شديد البرودة, واصرارهم علي الانتظار لساعات طوال للادلاء باصواتهم في الجولة الأولي من الاستفتاء جموع المراقبين وكل من شاهدوا هذا المشهد الجلل عبر مختلف الفضائيات. ومن المؤكد أن إصرار قطاعات عريضة من المجتمع علي التصويت بلا يعبر عن أن الشخصية المصرية متعددة الثقافات المنصهرة في هوية شديدة الخصوصية والتفرد رفضت علي نحو قاطع التلويح بورقة المساعدات المالية التي لوح بها البعض ظنا منه أن الشعب المصري قد يضعف نتيجة أزماته الاقتصادية أمام سياسات العصا والجزرة. من هنا فإنه يجب علي دوائر صنع القرار أن تعي جيدا أن الشخصية المصرية ستكون عصية علي كل من يحاول تغيير هويتها أو من يحاول العبث بتقاليد الدولة المصرية, فنموذج الدولة البدوية لايجذب سوي الشعوب التي تهيم علي جانب التاريخ ولا يجذب الشعوب صانعة الحضارات والضاربة في عمق التاريخ.و لتعلم هذه الدوائر أنها لن تكون قادرة علي فرض سياسات بعينها و لن تستطيع اجبار الشعب المصري علي الرضوخ لها. ويجب علي كل من يعمل في دوائر صنع القرار حاليا أن يمد يده لجميع أطياف الشعب المصري, وأن يوجه خطابه لجميع جموع الشعب الذي لم ولن يقبل أن يدير له صانع القرار ظهره ليتجه الي أهله وعشيرته دون غيرهم ويحنث بوعوده وقسمه للشعب المصري العظيم.