في أحد الأحياء الراقية وفي منطقة شديدة الحيوية ومليئة برجال الأمن والأشخاص المهمين يقع المخبز الشهير والوحيد الذي يبيع الخبز المدعم أو رغيف الخمسة قروش.. المخبز الكبير نسبيا له اثنان من الزبائن بسطاء الحي وأغنيائه وله شباكان لتوزيع الخبز أيضا, أحدهما لبيع الرغيف بخمسة وعشرين قرشا والآخر لبيع الرغيف المدعم فئة الخمسة قروش. بين الشباكين مسافة لا تزيد علي عشرة أمتار لكنها تبتلع برغم ذلك مليارات الجنيهات التي تدفعها الدولة سنويا لدعم أهم سلعة حيوية للمصريين في هذه المسافة تحدث عشرات الآلاعيب لاستغلال الدعم في كل مراحله وفي هذه المسافة يلعب سماسرة صغار وكبار ومحترفون يعرفون منذ البداية أن مال الحكومة أسهل ما يمكن سرقته حتي لو كان مال المحتاحين! السيناريو نفسه تكرر مع أنبوبة البوتاجاز وكيس السكر وزجاجة الزيت وحتي البنزين.. القصة واحدة والنتيجة أيضا بلاغات من الفساد والاستغلال تفتح عن آخرها في الطريق بين خروج أموال الدعم وبيوت الفقراء ولا عزاء للمنتظرين في الطوابير. أنبوبة البوتاجاز لا يزيد سعرها علي ثلاثة جنيهات عندما تخرج من مصانع التعبئة مدعمة بمليارات الجنيهات سنويا, بينما وصل سعرها لأكثر من ثلاثين جنيها في الأزمة الأخيرة سبعة وعشرون جنيها يمتصها حيتان الدعم في كل أنبوبة هؤلاء يتفرقون بين أصحاب مصانع الطوب وأصحاب مزارع الدواجن الباحثين عن دفء الغاز للدواجن ومصانع تحت السلم لكنهم الحلقة الأخيرة في السلسلة المستغلة للدعم الكبير للأنبوبة يسبقهم من يعرفون كيف يلتقطون الأنبوبة في مافيا شديدة التنظيم بل الجرأة التي جعلت عملية نقل الأنابيب من عربات النقل الحكومية القادمة من المصانع لسيارات خاصة تتم جهارا نهارا علي الطرق المصرية بينما الكل يبحث عن حل لأزمة الطوابير المنتظرة مالا يأتي. وحسب كلام الدكتورة أمنية خيري أستاذة الاقتصاد فإن الدعم الذي وصلت قيمته لأكثر من96 مليار جنيه عام2008 2009 ويمثل نحو24% من حجم الانفاق العام يعاني من عدم وصوله لمستحقيه, ليس نتيجة أن الدعم يضل الطريق ولكن لأن الدعم يقتنص في الطريق اصلا سواء بطرق عادية جدا لا يقف أمامها الكثيرون أو بطريقة إجرامية مخططة جيدا ومستقرة منذ سنوات, وصار لها سماسرتها بخلاف المستفيدين من الدعم من لا يستحقونه أصلا. دعم الطاقة وفي الدراسة التي أعدتها دكتورة أمنية فإن أغني20% من السكان يحصلون علي24% من حصة الغذاء المدعوم ويحصلون علي مايزيد علي34% من دعم الطاقة في حين يحصل أفقر20% علي20% فقط من الغذاء المدعوم و17% من الطاقة وعلي سبيل المثال فإن البنزين92 يحصل علي52% من دعم الطاقة بينما يحصل بنزين90 علي نحو38%. أساتذة الاقتصاد لا يملكون الأرقام فقط بل يشاهدون أيضا.. يحكي الدكتور محمود أبوالنصر أستاذ الاقتصاد بكلية التجارة جامعة عين شمس بمجرد أن سألته عن سماسرة وتجار الدعم حكاية حدثت معه شخصيا كما قال بل تتكرر يوميا علي طريق الاتوستراد بالقرب من السيدة عائشة فقد رأي بعينه سيارة بمقطورة لنقل الأنابيب القادمة من مصنع التعبئة في القطامية تقف بجانب الطريق وخلفها تقف خمس سيارات نقل متوسطة ويتم تفريغ شحنة المقطورة في السيارات بلا أي خوف وبمنتهي الجرأة في وضح النهار لدرجة أنه لجأ لضباط المرور الواقف بالقرب من المكان لكنه أفهمه أن هذا خارج اختصاصه. ويعلق الدكتور محمود: هؤلاء لم يكونوا ليمتلكوا تلك الجرأة وهذا التنظيم لو لم يكن وراءهم من يحميهم سواء من الرسميين أو حتي أصحاب المستودعات الكبري الذين تخرج السيارات تلك متوجهة إليهم لتوصيل حصصهم المقررة من الأنابيب ثم نعود لنسأل عن لصوص الدعم وأغنيائه أو عن حل لأزمة الأنابيب.. المسألة تحتاج لإعادة صياغة كاملة لآلية الرقابة فلا يعقل أن ندفع المليارات في دعم ولا نملك أن نحميه من اللصوص. أما من تذهب إليهم الأنبوبة ولا يستحقونها طبعا بعد شرائها من تجار وسماسرة الأنابيب فهم غالبا مزارع الدواجن التي توفر في استخدام الكهرباء في التدفئة باستخدام أنابيب البوتاجاز المنزلية ويزداد هذا في فصل الشتاء بالتأكيد وهو ما يتسبب في حدوث جزء كبير من الأزمة وهناك أيضا أصحاب قمائن الطوب الذين يستبدلون السولار بالأنبوبة هذا بخلاف مصانع بير السلم. رغيف الخبز رغيف الخبز الأزمة الثانية الأكثر شهرة في عالم السلع المدعمة له سوق سوداء وسماسرة أغنياء عرفوا تماما كيف يستفيدون مما تدفعه الدولة سنويا وهو نحو15 مليار جنيه لدعمه عبر شراء ما يزيد علي7 ملايين من القمح المستورد ونحو6 ملايين طن من القمح المحلي تنتج يوميا نحو250 مليون رغيب لملء بطون نحو65 مليون مواطن يستحقون الدعم بالفعل حسب تقديرات الدولة وبرغم هذا العدد الضخم فإن أزمات رغيف الخبز وطوابيره لا تتوقف عن التكرار بين وقت وآخر والسبب الوحيد الذي يعرفه الجميع هو أن ما يخرج من المخابز ربما لا يزيد علي نصف تلك الكمية لأن ما يقرب من النصف الآخر إما يتم تهريبه في شكل أجولة دقيق لمخابز العيش الفينو أو خبز يتم تهريبه لمزارع تسمين المواشي أو حتي خبز بمواصفات أفضل يبلغ أربعة أضعاف ثمنه بعد زيادة الوزن قليلا. ولو عرفنا أن سعر جوال الدقيق المدعم وزن100 كيلو يقدم للأفران بسعر16 جنيها فقط أي نحو160 للطن في حين يبلغ الدقيق الحر لمخابز العيش الطباقي نحو900 جنيه للطن أي نحو أربعة أضعاف السعر, يصبح البحث عن سبب وجود هؤلاء أمرا طبيعيا وهو ما اعترف به نائب رئيس هيئة السلع التموينية نعماني نصر نعماني باعتبارها قاعدة طبيعية في الاقتصاد فالتفاوت الكبير في السعر بين ما يوفره السوق وما توفره الدولة من سلع رخيصة يخلق سوقا سوداء للاستحواذ علي الرخيص والتربح منه وبرغم ما قاله نائب رئيس مجلس إدارة الهيئة فعندما سألته كم تبلغ نسبة التسرب التي تحدث في السلع المدعومة الأساسية التي توفرها الهيئة رفض تحديد نسبة معينة, وقال: هذا يتوقف علي حركة السوق تماما فعندما تزداد الأسعار في السوق الحرة كما حدث منذ فترة في الزيت مثلا يلجأ أصحاب البطاقات لأخذ حصصهم من الزيت المدعوم بينما لو حدث العكس يتكاسلون عن الذهاب للبقال التمويني مما يعطي الأخير الفرصة لبيع هذه الحصص للتجار أو مصانع الزيت الخاصة التي تقوم بدورها بإعادة تعبئته وبيعه بأسعار السوق الحرة وهو ما يتكرر أيضا مع السكر الذي يتسرب جزء غير قليل منه لمصانع الحلوي والمقاهي ولكن السبب الأول في هذا هو إحجام أصحاب الحصص عن أخذ حصصهم. وحسب آخر احصائية لوزارة التجارة والصناعة فإن ميزانية الدعم للسلع التموينية لعام2009/2008 كانت كالآتي, رغيف الخبز13.8 مليار جنيه, زيت التموين3.52 مليار جنيه سكر تمويني وإضافي2.14 مليار جنيه أرز560 مليون جنيه بينما لم تحدد قيمة الفول والعدس والمكرونة ويصل الدعم لنحو20 مليار ونصف المليار جنيه. ازدواجية وغياب رؤية الدكتور مصطفي عبدالغفار أستاذ القانون التجاري ورئيس مصلحة السجل التجاري السابق يري أن هناك نوعين من الدعم: الأول يسهل التحكم فيه بدرجة كبيرة بحكم طريقة تداوله وبحكم مواد القانون وهو السلع التموينية علي البطاقة, والنوع الآخر يمثل فرصة ممتازة للسماسرة وتجار الدعم لتحقيق مكاسب ضخمة منه والتلاعب فيه كما يشاءون مما ينتج عنه أزمات أصبحت جزءا طبيعيا من حياتنا اليومية وهو ما يتكرر مع رغيف الخبز وأنبوبة البوتاجاز والعديد من السلع البترولية ولكن لماذا يحدث هذا مع تلك السلع التي تبتلع الشريحة الأكبر من قيمة الدعم؟ يجيب الدكتور مصطفي: الازدواجية وعدم وضوح الرؤية القانونية في بنود التعامل مع آلية وصول الدعم لمستحقيه هي السبب فمثلا في رغيف الخبز نجد أن دمه متفرق بين القبائل بدءا من وزارة التجارة مرورا بوزارة التضامن والاستثمار والبترول والمحافظين كل من تلك الوزارات والهيئات مسئول عن رغيف الخبز منذ أن كان قمحا, ولكن لا أحد لديه آليات حقيقية للرقابة عليه خاصة أن القانون مثلا يحاكم فقط من يتاجر في الدقيق أو صاحب المخبز الذي يغش فيه المواصفات,. أما الأمر الثاني فهو أن وزير التضامن نفسه وكمحاولة منه للسيطرة علي أزمة الرغيف وقع عقودا توقف تنفيذ القانون خاصة مواد الحبس مع أصحاب المخابز ليتحول الأمر للغرامة فقط وتناسي أن هناك جناة آخرين يشجعون هؤلاء علي ما يحدث. لو حاولنا أن نقدر قيمة ما يتم إهداره من الدعم ويدخل لجيوب السماسرة فكم يمكن أن يكون في تقديرك؟ لو افترضنا جدلا أن ما بين20 إلي30% مما يذهب للمخابز من دقيق ولمستودعات الأنابيب وبقالي التموين في حدود35 مليار جنيه فهذا يعني أن مالا يقل عن10 مليارات سنويا يتوجه لجيوب هؤلاء بين صغار سماسرة وكبار وهو رقم ضخم في أي ميزانية مرهقة ومثقلة بالديون مثل ميزانية بلادنا.