لعل المصريين جميعا, وربما العرب, شاهدوا فيلم طيور الظلام, ذلك العمل الرائع للفنان القدير عادل إمام, الذي اختتم بمشهد نبوئي جمع بينه والفنان رياض الخولي, وهما يتنافسان علي ركل كرة قدم كانت تتوسط المسافة بينهما. وقد أوحت أحداث الفيلم الذي كتبه السيناريست الرائع وحيد حامد بأن الكرة جسد مصر, فيما الزعيم يمثل النظام السلطوي الفاسد الجاثم علي أنفاسها, محتميا بقوة الأمر الواقع, والخولي يمثل تيار الإسلام السياسي, الذي يصارع من أجل نيل نصيبه من السلطة والثروة, ملتحفا بشعارات الدين ومظاهر التدين. هكذا لخص الفيلم ببراعة أحد أهم السمات التي حكمت الواقع المصري في النصف الثاني للقرن العشرين, وهي الخضوع للاستقطاب بين طرفي ثنائية صلبة( سلطوية إسلاموية) أو (استبداد تطرف), فإما الرضا بنظام حكم متسلط, وإما الخضوع لإسلام سياسي متشدد. عمليا كانت السلطة المستبدة هي الأقدر علي الإقصاء, ونظريا كانت التيارات المتأسلمة هي الأعنف في الإقصاء, إذ تتجاوز إنكار نظم الحكم إلي تكفير المجتمعات المحكومة, ولم يكن ثمة قيد علي تلك النزعة سوي غياب التمكين. كان التناقض في هذه المرحلة جذريا, أكثر اتساعا, وأعمق تجذرا, كان بالأحري استقطابا ثقافيا حول هوية مصر, تنبع ثنائياته وتصب في فضاءين مختلفين أحدهما يمثل الشرعية, وهي شرعية أمر واقع, والآخر يمثل نقيضها. غير أن آليات عمله ظلت معطلة لأن ثنائياته كانت مجمدة في ثلاجة التاريخ, ولذا لم يكن ثمة حوار أو جدل بل ردود أفعال عنيفة متبادلة, تقوم علي الإنكار والإقصاء. اليوم نجد الفريق شفيق والدكتور مرسي يحتلان موقع عادل إمام ورياض الخولي, يتصارعان علي مستقبل مصر, كلاهما ينتمي إلي زمن سياسي قديم وإن توزعت فيه الأدوار بين الحكم (شفيق) والمعارضة (مرسي), كل منهما يطلق سهامه في الاتجاه المقابل, محاولا أن يركل مصر, وأن يستحوذ علي عقول المصريين. وهنا ينتقل الصراع علي مصر من الفن إلي السياسة, من الشاشة إلي الشارع, كما يراوح بين نظام حكم كان فاسدا يريد أن يتطهر, ومعارضة كانت متواطئة وإن مقهورة, تدعي الطهرانية, فهل يعني ذلك كما يذهب المتشائمون بأن جديدا لم يحدث, وأن ثورة يناير قد أجهضت, وأن التاريخ, تاريخنا نحن, لا يزال يراوح في مكانه؟. بالطبع لا, فالثورة أسقطت الخيارات الأكثر رجعية واستبدادا. إذ دفعت إلي أفول النظام السلطوي, الذي يزداد ترنحا خاصة بعد إصدار حكم المؤبد علي الرئيس السابق, وإن لم تقتلع جذوره بعد. وإلي ذبول التيار الجهادي, إما لأن كتلته الأساسية قد انزاحت إلي خارج المجتمعات العربية, إلي أفغانستان وبؤر أخري بدعوي (عالمية الجهاد), اللهم سوي امتدادات قليلة, وإما لأن بعض مكوناته الأساسية, كالجماعة الإسلامية, قد دخلت إلي حلبة السياسة, وهي التي طالما أدانتها بشدة. هنا تصير مصر علي أعتاب تجاوز حال الاستقطاب الثقافي, وإن لم تتمكن بعد من تجاوز حال الاستقطاب السياسي, ما يعني أنها تتقدم للأمام ولكن ليس باتجاه حقبة من الهدوء بل نحو مرحلة من الصراع حول السياسة لا الهوية. لقد تراجعت حدة التناقض بين طرفي الثنائية ولكن, في المقابل, ازدادت فرصة الجدل بينهما, بعد زوال الخطوط الفاصلة بين داخل الشرعية وخارجها, إذ صار الجميع يلعبون في الفضاء نفسه, بالقوانين نفسها, وأمام الحكم ذاته. سوف يحتدم الجدل إذن, وسيكون أعمق, وإن بأدوات جديدة سلمية وسياسية, وليس بالأدوات العتيقة, العنيفة, وسوف يكون جمهور المصريين حاضرا هذه المرة لا غائبا ولا مغيبا, لأنه ثار, وأخذ الأمر بيده ربما للمرة الأولي, ومن الصعوبة إرجاعه إلي ثكنات السلبية والاغتراب واللامبالاة. ستجري هذه العملية المعقدة لا من خلال حوار نظري في حجرات مغلقة, بل من خلال صراع سياسي واقعي في أفق مفتوح بين الرئيس أيا ما كان, والحكومة أيا ما كانت, وبين البرلمان والمعارضة, وبين هؤلاء والنخبة الفكرية والسياسية عبر وسائل الإعلام المفتوح التي ستنشغل طويلا بوقائعه. وفي كل الأحوال سيكون الجمهور شاهدا, سوف يسمع ويتناقش. كما أنه, ومن خلال التعاطي العملي مع قرارات وتشريعات البرلمان, سوف يتفاعل ويتأثر ويراجع. ربما تخلي كثيرون عن بعض اقتناعاتهم القديمة, وصاغوا أخري أكثر تحررا أو حتي أكثر تشددا. ولكن المؤكد أنهم جميعا سيكونوا قادرين علي اختبارها في الواقع, وعلي إعادة التفكير في نتائجها, عبر آليات التغذية الاسترجاعية الملهمة والكاشفة. سوف يتشاجرون كثيرا وطويلا ويتفقون قليلا, سيعلو الصياح بالرفض أو التأييد, ولكن الجميع سوف يدخلون ورشة عمل ثقافية مفتوحة, وسيبذلون جهدا مضنيا للفهم, وعندها سيتجهون نحو التوافق. ستنتاب الجميع لحظات شك وشوق إلي اليقين.. سوف يتمزق الناس حول فهم الدين عندما يستمعون إلي تفسيرات عدة ويدركون أن ثمة فهما مختلفا للإسلام عن ذلك الذي عرفوه في الزوايا الصغيرة, والكتب الصفراء.. ستزيغ عقول وعيون كثيرين, وتخور أرواحهم إزاء صعوبة الحقيقة واستعصائها علي الإدراك السهل البسيط.. سيديرون أعناقهم إلي مراجعهم الكبري منصتين ومراقبين.. وهنا سيتم استدعاء الأزهر الشريف لأول مرة لا كمؤسسة رسمية وظيفتها إضفاء المشروعية في عصر الاستبداد المطلق, ولكن كما كان دوما: قيمة وقامة, كصاحب وثيقة تأسيسية هي الأبرز حتي الآن حول الدولة المدنية ليكون حكما بين النخب المتصارعة علي فهم الإسلام.. سينتصر الأزهر لفهمه المعتدل, في مواجهة أئمة الزوايا من ذوي العمامات والجلابيب, وأئمة الفتاوي الفضائية من ذوي البدل العصرية. وفي كل الأحوال سوف تبقي حركة الواقع, بكل قسوتها, حكما علي الجميع, تكذب من هو كاذب, وتنتصر للأكثر عقلانية وصدقا من رجال وعقول.. من مقولات وطروحات. سوف تبشر وتنفر.. تصدم وتدفع.. ولكنها في النهاية سوف تلهم وتعلم.. ربما انصاعت رموز التيار الإسلامي الراهن إلي الحقيقة, وعندها سيكون التغيير أسرع وأسلس, ويظل لهم حضورهم فيه, بأسمائهم وأحزابهم ومؤسساتهم, وربما رفض هؤلاء الحقيقة, غيابا عن حركة الزمن, وابتعادا عن اتجاه سير التاريخ, وعندها سيسقطون من الحساب.. سيتجاوزهم الواقع وينساهم الناس. سوف يفرض المنطق العقلاني نفسه علي الجميع, وهنا تستعيد الكتلة العربية لا المصرية وحدها, ولو تدريجيا, تجانسها وتتجاوز حال الاستقطاب المزمن الكامن فيها.. سوف تواصل الحديثة/ العصرية نموها واتساعها وانتشارها, وفي المقابل سوف تفقد الكتلة السلفية/ التقليدية حضورها المعطل لحركة العصر وتتحول إلي وجود نحيف, أقرب إلي التيارات العنصرية أو اليمين القومي في المجتمعات الأوروبية, وجود يرمز إلي الماضي, ولكنه غير قادر علي التحكم بالراهن أو الآتي, وجود لا يعوق الكتلة الحديثة عن التدفق في مجري التاريخ, خروجا علي حال الاستعصاء, واستئنافا لمسار نهضوي منكود منذ عقود إن لم يكن قرونا. المزيد من مقالات صلاح سالم