واجه الدول العربية, وفي مقدمتها مصر, تهديدات عديدة ومكثفة لها علاقة مباشرة بالصراع النووي الاقليمي في الشرق الأوسط وتداعياته المحتملة علي دول الاقليم, وعلي الرغم من ان هذه التهديدات لم تظهر فجأة. لكن الايقاع السريع لتطوراتها, اخذ يدفع بمصر ودول عربية اخري وجها لوجه مع استحقاقات هذا الصراع, وهي استحقاقات لم يعد من الممكن الهروب منها او تأجيلها علي نحو ماحدث طيلة العقود الماضية, وبالذات منذ أن اصبحت إسرائيل قوة نووية اقليمية احادية مالكة دون غيرها في المنطقة ترسانة ضخمة من الاسلحة النووية, ومنذ ان صدق مجلس الشعب المصري عام1981 علي معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية, وتوقيع مصر بعد ذلك علي اتفاقية الحظر الشامل للتجارب النووية( ديسمبر1996) ثم منذ ان قررت مصر, رسميا, تجميد مشروعها النووي عام1986. هذه المواقف المصرية المتلاحقة الواحدة تلو الأخري التي اخرجت مصر, بمحض ارادتها, من سباق التسلح النووي, والتي اكتملت بتبني مصر مسئولية ريادة السياسة الداعية إلي جعل اقليم الشرق الأوسط خاليا من الاسلحة النووية, باعتبار ان هذه السياسة هي الخيار الاستراتيجي المصري, تماما, كما هو السلام, كخيار استراتيجي مصري تواجه الآن اصعب اختباراتها في ظل مجموعتين متزامنتين ومكثفتين من التحديات, المجموعة الأولي تتعلق بدخول جهود منع الانتشار النووي في الشرق الأوسط في طريق مسدود في ظل الاصرار الإسرائيلي علي رفض التوقيع علي معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية, والتواطؤ الأمريكي الداعم لهذا الاصرار علي نحو ما تكشف عنه خلال الايام القليلة الماضية التي سبقت واعقبت اعمال القمة النووية, التي عقدت في واشنطن(12 13 ابريل الحالي) في حين تتعلق المجموعة الثانية بالتطورات السريعة والمتلاحقة الخاصة بأزمة الملف النووي الايراني, واحتمال التورط الأمريكي في ما تسعي إليه إسرائيل من فرض الحل العسكري كخيار لابد منه لحل هذه الازمة. في السنوات الأخيرة بدأت مصر تشعر بوطأة التفرد الإسرائيلي بامتلاك الاسلحة النووية, وبخطر الجهود الإسرائيلية, المدعومة أمريكيا, الرامية إلي منح إسرائيل فرصة الظفر بقدراتها النووية والحصول علي اعتراف رسمي دولي بكونها دولة نووية عسكريا, ما يعني توجيه ضربة قاضية للاستراتيجية النووية المصرية الداعية إلي جعل اقليم الشرق الأوسط خاليا من الاسلحة النووية. فإسرائيل لم توقع علي معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية مثلها الهند وباكستان, لكن الفارق بينها وبين هاتين الدولتين انها تلتزم, باستراتيجية الغموض التي لا تعترف ولا تنفي امتلاك اسلحة نووية. سياسة الاخفاء أو الغموض هذه رعتها الولاياتالمتحدة منذ ان وعد الرئيس الأمريكي الاسبق ريتشارد نيكسون, حسب ما كشف وزير خارجيته هنري كيسنجر في مذكراته, رئيسة الحكومة الإسرائيلية السابقة جولدا مائير في25 سبتمبر1969, بدعم هذه الاستراتيجية وعدم الضغط علي إسرائيل للتوقيع علي معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية. هذه الرعاية الأمريكية تجددت علي لسان الرئيس الأمريكي باراك اوباما في لقائه مع بنيامين نيتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية في مايو الماضي بواشنطن, ما جعل مسئولا بمجلس الشيوخ يصف تجديد هذا التعهد بان الرئيس قدم لإسرائيل بهذه الطريقة بطاقة سراح من السجن. بطاقة السراح هذه تأكدت خلال الاجتماعات التحضيرية للقمة النووية التي عقدت في واشنطن, وفي اثناء وبعد انتهاء هذه القمة النووية, فقد نقلت صحيفة جيروزاليم بوست عن مسئول عسكري إسرائيلي قوله: ان تل ابيب لن تقدم اي تنازلات ازاء سياسة الغموض النووي التي تنتهجها في قمة الأمن النووي, وأكد هذا المسئول ان الدولة العبرية لا تخطط لإعلان اي تغيير في سياسة الغموض النووي وليست هناك حاجة إلي ايقاظ الدببة!! وفي اثناء الاعداد لتلك القمة, وردا علي وجود مطالب عربية وإسلامية بالكشف عن المنشآت النووية الإسرائيلية وإخضاعها للرقابة الدولية أكد المسئولون الإسرائيليون أن إسرائيل تصر علي أن غاية المؤتمر هي منع انزلاق المعلومات النووية للمنظمات الإرهابية وليست بحث القدرات النووية للدول, واوضح الخبير الإسرائيلي في القانون الدولي روبي سايبل, في محاولة لطمأنة الإسرائيليين من المؤتمر ان الخشية في إسرائيل من التعرض لضغوط نووية أمريكية هي خشية مبالغ فيها وفي نظره ان الأمريكيين يدركون نقاط ضعف معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية( بسبب وضع الهند وباكستان) ولذلك فإنهم لايضغطون علي إسرائيل للانضمام إليها, وهم يفهمون ان هذه المعاهدة ليست الاداة المناسبة لنا. لهذه الاسباب قرر بنيامين نيتانياهو ان يشارك بنفسه في القمة النووية لكنه تراجع بعد معلومات قالت ان الإدارة الأمريكية ابلغت إسرائيل بأن القمة ستناقش مطالب دول إسلامية( خاصة تركيا) بإلزام إسرائيل بالانضمام لمعاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية, نيتانياهو تراجع رغم ما ذكرته صحيفة معاريف الإسرائيلية كان شريكا في صياغة البيان الختامي لتلك القمة, وابدي ارتياحا له ولمضمونه, وسبب التراجع هو التحسب الإسرائيلي لمرحلة ما بعد اعلان السياسة النووية الأمريكيةالجديدة الرامية إلي تقليص الاسلحة النووية علي الصعيد العالمي, خشية ان يأتي يوم وتقبل فيه واشنطن, ولو اضطراريا, بإدراج القدرات النووية الإسرائيلية علي جدول اعمال البحث. هذه التحسبات الإسرائيلية لم تظهر لها اية مؤشرات في القمة النووية, بل العكس هو الذي حدث, فقد عبر دان ميريدور نائب رئيس الوزراء الإسرائيلي رئيس الوفد في القمة النووية عن رضاه علي المؤتمر, وقال لم يكن هناك صخب, الجميع يعلمون اننا لا نمثل تهديدا علي خفض الانتشار. لم يكن هذا الرضا نابعا من فراغ بل جاء مدعوما بموقف امريكي, خصوصا بعد ان احجم الرئيس الأمريكي عن التعقيب علي سياسات إسرائيل النووية, لكن اكتفي بتذكير الصحفيين بدعوة أمريكية مستمرة, منذ فترة طويلة(!!) لانضمام كل الدول لعضوية معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية. ما حدث في قمة واشنطن النووية يمثل تحديا حقيقيا للتخطيط السياسي المصري الذي يركز علي معاودة سياسية الهجوم السياسي والاعلامي في مؤتمر مراجعة معاهدة حظر انتشار الاسلحة النووية الذي سيعقد في مقر الاممالمتحدة بنيويورك(28 مايو المقبل) وهو المؤتمر الذي يعقد كل خمس سنوات لمراجعة سلبيات وايجابيات تلك المعاهدة وما تتعرض له من تحديات وعقبات. يرتكز هذا التخطيط أولا علي ان يعبر المؤتمر عن اسفه لعدم تحقيق اي تقدم في قرار جعل الشرق الأوسط اقليميا خاليا من الاسلحة النووية, والدعوة ثانيا لعقد مؤتمر دولي له صلاحيات تفاوضية بحلول عام2011 تشارك فيه كل دول الشرق الأوسط للوصول إلي معاهدة دولية تلزمه بجعل الاقليم خاليا من تلك الاسلحة. هذا التخطيط يواجه تحديين أولهما عزوف إسرائيل عن المشاركة في هذا المؤتمر, وثانيهما رفض الدول النووية الخمس الكبري( هي نفسها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن) اعطاء مثل هذا المؤتمر المقترح من مصر اية صلاحيات تفاوضية, اي تفريغه من محتواه وجعله مجرد مؤتمر يصدر نداءات لن تجد من يصغي إليها أو يحترمها. هذه التحديات التي تواجه السياسة المصرية النووية والتي قد تنتهي إلي فرض إسرائيل نفسها كقوة امر واقع نووية بقبول من المجتمع الدولي تتزامن مع التحديات الخاصة بالبرنامج النووي الايراني التي قد تنتهي إلي واحد من امرين, اما فوز إيران ببرنامجها النووي هي الاخري كأمر واقع, واما تعرضها لحرب تشنها إسرائيل والولاياتالمتحدة, وهي حرب قد تكون قد اضحت قاب قوسين أو ادني. الحرب ستفرض آثارها التدميرية علي كل دول المنطقة بما فيها مصر وكثير من الدول العربية, لكنها ستفرض إسرائيل قوة نووية احادية في الشرق الأوسط, ما يعني تحولها إلي قوة مهيمنة عظمي وادخال المنطقة العصر الإسرائيلي, بكل ما يعنيه من مخاطر هائلة للأمن القومي المصري والعربي. اما فوز إيران ببرنامجها النووي, فمعناه ظهور نظام نووي شرق اوسطي ثنائي القطبية يجعل الوطن العربي اشبه بحال أوروبا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وسنوات الحرب الباردة ويحوله إلي منطقة تنازع نفوذ إسرائيلي ايراني. المعني المباشر لهذا كله هو الانتهاء الحتمي لسياسة جعل الشرق الأوسط خاليا من الاسلحة النووية, ودخول السياسة المصرية بهذا الخصوص إلي طريق مسدود, من شأنه ان يفرض حتما سياسة اخري بديلة.