هناك توقعات شديدة التناقض حول طبيعة المرحلة السياسية الراهنة في الشرق الأوسط، لجميعها رصيد إثباتي محدود من بعض مواقف الأطراف الدولية والإقليمية المعلنة ومن مقدمات الأفعال وشواهد الحاضر مما يمكن التعويل عليه للتدليل على صحة النظر ورجاحة التوقع. يذهب العديد من الساسة وصناع الرأي والمراقبين إلى أن حالة الاستقطاب وتواتر تفجر الصراعات في ساحات متنوعة على امتداد الشرق الأوسط والتي اتسمت بها المنطقة منذ الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003 في طريقها إلى الزوال لتحل محلها مرحلة مغايرة يرون جوهرها يتشكل حول مفردات التهدئة والانفراجات التفاوضية والبحث عن تسوية سلمية للصراعات. هؤلاء يبنون توقعاتهم الإيجابية على افتراضين أساسيين، تغير السياسات الأمريكية مع الرئيس أوباما وتجاوب الأطراف الإقليمية - على تباينها في القرب والبعد من القوة العظمى - معها في جهد جماعي ينزع الفتيل المشتعل في الأراضي الفلسطينية وذلك القابل للاشتعال سريعاً في لبنان وحول العراق وإيران في الخليج. وساهمت الدبلوماسية العامة والأجندة المعلنة للإدارة الديمقراطية الجديدة في إنتاج انطباع بجدية اهتمامها بالشرق الأوسط كأحد الأولويات الكبرى لسياستها الخارجية وبعزمها على تحريك مسار التسوية التفاوضية بين الفلسطينيين وإسرائيل وإنجاز انسحاب آمن وسريع من العراق يقتضي مع ملفات أخرى أبرزها المشروع النووي والدور الإقليمي للجمهورية الإسلامية البدء (أو الاستمرار) في حوار طويل المدى مع حكام إيران وكذلك الانفتاح على سورية لتحييد توجهاتها المناوئة للرؤية الأمريكية في المنطقة. ثم جاءت مقدمات أفعال أوباما خلال الأيام المائة الأولى لتعطي بعض مصداقية لهذه التوقعات الإيجابية بتعيين جورج ميتشيل كمبعوث رئاسي خاص لعملية السلام وتوالي ذهاب شخصيات معتدلة نافذة ومقربة من الرئيس للشرق الأوسط إلى سورية وإسرائيل والأراضي الفلسطينية ولقاءات أوباما مع قادة العالم العربي واختياره لمخاطبة العرب والمسلمين من مصر بما تمثله إقليمياً من نهج معتدل وعمل دءوب على التسوية السلمية (وفي هذا انتصار كبير للدبلوماسية المصرية). كما تفاعلت قوى شرق أوسطية كإيران وسورية مع نشاط إدارة أوباما بالتأكيد على رغبتها في تحسين العلاقة مع القوة العظمى وشجعتها قوى أخرى مع إرهاصات التغير في السياسة الأمريكية وبحثها عن انفراجات تفاوضية بحديث عن حتمية التهدئة والمصالحة في المنطقة وتجاوز الصراعات التي فرضت عليها ثنائية معسكري الاعتدال والممانعة. بعبارة بديلة، تصنع هنا صورة إيجابية لشرق أوسط مقبل على مرحلة تسوية استنادا إلى أولويات أوباما سلامية الطابع وافتراض نزوع شامل للأطراف الإقليمية إلى التحرك في ذات الاتجاه دون النظر في تباين مصالحها والأسباب الحقيقية لصراعاتها خلال الأعوام الماضية. هذا القصور التحليلي في الطرح رتب ظهور مجموعة ثانية من التوقعات تغيب كل إمكانية لنزع الفتيل المشتعل في الشرق الأوسط بفعل تغير منتظر في السياسة الأمريكية التي يراها أيضاً عدد لا بأس به من الساسة والمحللين عاجزة عن إخراج المنطقة من صراعاتها، بل ويشددون على أن التطور داخل ساحات الصراع الإقليمي يدفع نحو لحظات تصعيدية قادمة لا محالة. الإشارة هنا هي من جهة إلى حكومة اليمين الجديدة في إسرائيل بزعامة بنيامين نتينياهو الرافضة لأي عملية سلام حقيقية تفضي إلى دولة فلسطينية وتعثر محاولات المصالحة بين فتح وحماس بما يعنيه ذلك من استمرار المسارات المنفصلة للضفة الغربية وغزة وتقويض الأوراق التفاوضية للفلسطينيين. من جهة أخرى، يجزم العديد من الساسة وصناع الرأي في المنطقة بأن قوى إقليمية رئيسية لا مصلحة فعلية لها في السعي وراء انفراجات تفاوضية أو في العمل على صياغة مناخ إيجابي جوهره التهدئة. هؤلاء على ثقة من أن حكام طهران الفعليين، خاصة المرشد الأعلى خاميني وقادة الحرس الثوري، ينظرون إلى الحوار مع الولاياتالمتحدة بقلق مصدره الخوف من تداعياته السلبية المحتملة على قبضتهم داخل الجمهورية الإسلامية وعلى نفوذ إيران إن في العراق أو في لبنان وغزة. يجزمون أيضا بأن سورية، وعلى الأهمية التي توليها لتحسين العلاقة مع واشنطن وما قد يرتبط بذلك من تنشيط للعملية التفاوضية بينها وبين إسرائيل، لا تملك القدرة على الاستجابة للثمن المطلوب أمريكيا بتغيير خريطة تحالفاتها الإستراتيجية مع إيران وحزب الله وحماس في لحظة ترد بها تهديدات حقيقية على مصالحها بفعل محكمة الحريري الدولية وتوابع التلميحات الأخيرة لوكالة الطاقة الذرية حول آثار نشاط نووي في موقع الكبر الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية العام الماضي. وبعيداً عن مثل هذه المقولات القطعية التي تختزل القضايا المطروحة إلى مواقف حدية ومعادلات صفرية، يبدو الدليل الأكثر أهمية نسبياً في جعبة منتجي التوقعات السلبية هو ذلك المرتبط بكون الرغبة المعلنة لإدارة أوباما لإنجاز تغير في السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ما لبثت تفتقد ملامح قراءة إستراتيجية جديدة تستطيع أن تحيلها واقعا. ففي حين يستلزم تحريك مسار التسوية التفاوضية بين الفلسطينيين وإسرائيل إعادة النظر في مقاربة واشنطن الاستبعادية إزاء حماس ومدى استعدادها لممارسة ضغط حقيقي على حكومة نتينياهو، يتطلب الشروع في حوار مع إيران حسم الخيارات حول طبيعة الحوافز المقدمة لها للتخلي عن برنامجها النووي وحدود علاقتها بالاعتراف لطهران بمساحات للنفوذ الإقليمي يخشاه الكثيرون من بين حلفاء القوى العظمى التقليديين في الخليج والمشرق الشرق الأوسط وكذلك نوعية العقوبات التي يمكن التعويل عليها حال رفض إيران للحوافز الأمريكية والموقف من الضغط الإسرائيلي المتوقع بغية اعتماد الخيار العسكري لإيقاف برنامجها النووي. خلاصة القول إذا هي أننا هنا أمام مجموعة من التوقعات تؤسس على الغيابات البادية اليوم في السياسة الأمريكية وبعد 100 يوم على دخول أوباما البيت الأبيض وعلى استمرارية الصراعات في الحراك الإقليمي لتنزع عن الجديد القادم إلى الشرق الأوسط مطلق إمكانية التغيير. تدفعني محدودية رصيد مجموعتي التوقعات الإيجابية والسلبية من العمق الزمني حين تحليل مواقف إدارة أوباما ومن شواهد الواقع الدالة على أنماط تفاعل القوى الإقليمية معها إيجابا وسلبا إلى التشكك في رجاحة كليهما. وظني أن الشرق الأوسط، وبالنظر إلى حيوية أجندته السياسية في العام الجاري بانتخاباتها الهامة في إيران ولبنان والعراق - وربما في فلسطين - وما تتضمنه من احتمالية التحول في معادلات توزيع القوة بهذه البلدان الواقعة في قلب ساحات الصراع، سيمر في عام 2009 باختبارات واحتكاكات متتالية ستتضح في سياقاتها الخيارات الإستراتيجية للأطراف المختلفة وخطوط حركتها على نحو ربما مكننا مع نهايته من الحكم بدقة أكبر على طبيعة المرحلة الراهنة.