منذ أيام رفض السياسى اليمينى، كارل بنجامين، مرشح حزب «استقلال بريطانيا» (يوكيب) لانتخابات البرلمان الأوروبى المقبلة، الاعتذار عن وصفه شابة معاقة بأنها «متخلفة ذهنياً»، ودافع عن استخدامه تعبير «زنجى» خلال حديثه عن العنصرية، قائلاً إنه «شخصياً يجد النكات العنصرية مضحكة». والأسوأ أنه دافع عن تغريدة له على «توتير» قال فيها إنه لن يتحرش جنسياً بالنائبة البارزة فى حزب العمال المؤيدة للبقاء فى الاتحاد الأوروبى، جيسى فيليبس، لأنها «قبيحة». وبينما كان بنجامين يرفض الاعتذار «لأنه لا فرق لديه بين رجل وامرأة…وعلى الجميع تحمل السخرية على قدم المساواة»، متهماً معارضيه ب«التصيد» وأخذ تصريحاته خارج سياقها، كانت الشرطة البريطانية تحاصر الناشط اليمينى المتطرف، تومى روبنسون، المرشح المستقل فى انتخابات البرلمان الأوروبى عن شمال غرب بريطانيا بعدما بدأ يوزع «هامبرجر» و«هوت دوج» مجاناً على المارين من أجل إقناعهم بالتصويت له. وطلبت الشرطة من روبنسون وقف توزيع شطائر البرجر والهوت دوج فوراً لأن ذلك يخالف القانون الانتخابى. وسط كل هذا كانت النائبة السابقة عن حزب المحافظين، آن ويديكوم، التى تحولت لنجمة تليفزيونية بعدما شاركت فى برنامج راقص للمشاهير، تعلن أنها ستترشح على قائمة حزب «البريكست» الجديد بزعامة نايجل فاراج فى انتخابات البرلمان الأوروبى. وبلهجة جادة قالت ويديكوم، التى كان سبب شهرتها هو ضخامة حجمها وتعثرها الكارثى فى خطوات أى رقصة خلال البرنامج، إنها تترشح لوقف تدهور صورة بريطانيا بوصفها «أضحوكة العالم». تعثر البريكست فتح الباب لعودة نايجل فاراج للمشهد السياسى. لا شك أن البريكست كان فكرة سيئة جداً، فقد كلف بريطانيا سمعتها ومكانتها الدولية، وشل الحكومة والبرلمان، وقسم الأحزاب السياسية، وألحق الضرر بقدرة بريطانيا على جذب الاستثمارات الأجنبية، وأثر سلباً على العلاقات التى كانت وطيدة مع الحلفاء الأوروبيين. لكن أياً من هذه الأضرار الفادحة لا يقاس بحجم الضرر الذى ألحقه البريكست بالثقافة السياسية البريطانية. فما فعله البريكست ببريطانيا أفدح بكثير من أسوأ كوابيس رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون. ففى مقابلات قليلة أجراها كاميرون منذ استقال، كان أسوأ ما يتوقعه هو استقطاب سياسى حاد فى بريطانيا. وقد حدث هذا. لكن حدث ما هو أسوأ منه بكثير. فبعد ثلاثة أعوام من تعثر البريكست، عاد للمشهد السياسى البريطانى «زومبى» السياسة البريطانية، أى هؤلاء السياسيون الذى توقع الشارع أنهم غادروا المسرح ليجدهم يعودون من بين الأموات يريدون لعب دور. والأسوأ أن آخرين من أقصى اليمين المتطرف بعضهم كان على هامش السياسة البريطانية بسبب أفكاره وآرائه العنصرية حول النساء والأقليات والمهاجرين والإسلام، انضموا للمشهد المتعثر والفوضوى. عودة عراب البريكست: بمفرده إذن تمكن البريكست من رمى بريطانيا من الوسط إلى أقصى اليمين. وعاد «زومبى» السياسة البريطانية من بين الأموات، من نايجل فاراج الزعيم السابق لحزب استقلال بريطانيا (يوكيب)، وآن ويديكوم، النائبة السابقة عن حزب المحافظين، إلى جورج جالاوى، الذى غير تحالفاته السياسية من «حزب العمال»، إلى «حزب الاحترام» ، إلى مرشح ل «حزب البريكست» بقيادة فاراج فى تحول مذهل لمساراته الأيديولوجية. عودة «عراب البريكست»، نايجل فاراج من «التقاعد السياسى» لمواصلة معركة خروج بريطانيا من الأتحاد الأوروبى هو الخبر الأكثر سوءاً للأحزاب السياسية فى بريطانيا، خاصة «المحافظين» و«العمال». فعلى عكس الحزبين الكبيرين، اللذين ما زالا يحاولان مسك العصا من المنتصف فيها يتعلق بالبريكست ما يساهم فى حيرة الناخبين أكثر، لا يحاول فاراج مسك العصا من المنتصف. فحزبه «البريكست» واضح فى اسمه ومسعاه. فهو يريد تطبيق نتيجة استفتاء 2016، أى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، سواء باتفاق أو من دون اتفاق. وأظهر استطلاع جديد للرأى أن واحدا من بين كل ستة بريطانيين سيصوت لصالح حزب «البريكست» بزعامة فاراج فى حالة إجراء انتخابات عامة مبكرة. وبسبب الغضب الشعبى العارم على فشل الحكومة فى التعامل مع البريكست أو أى قضية ملحة آخرى مثل الفقر والخدمات الصحية وارتفاع معدل الجريمة، توضح كل المؤشرات أن حزب المحافظين الحاكم فى طريقه كى يخسر واحد من كل خمسة من نوابه فى المجالس المحلية. وإجمالاً، قد يخسر حزب «المحافظين» أكثر من 1000 مقعد، أى نحو 20% من المقاعد البالغ عددها 5121 مقعدًا التى يدافعون عنها خلال الانتخابات المحلية التى ستعلن نتائجها الكاملة يوم الأحد، بينما قد يكسب حزب العمال 840 مقعداً جديداً، و«الأحرار الديمقراطيون» نحو 170 مقعداً جديداً فى المجالس المحلية. كما أن هناك أيضاً تحدى انتخابات البرلمان الأوروبى، وفاراج مصمّم على أن حزبه سيحتل صدارة تلك الانتخابات. وفى استطلاع للرأى حصد «حزب البريكست» نفس نسبة الدعم التى حصل عليها حزب العمال وهى 28% من الأصوات، بينما تراجع «المحافظون» للمركز الثالث. وكل هذا يعنى أن البريكست يعيد تشكيل الساحة السياسية البريطانية ليعزز وضع التيار اليمينى. نوعية رديئة من السياسيين كما مكّن البريكست بعض الشخصيات الأكثر بغضاً من دخول التيار الرئيسى للسياسة البريطانية، من جيرارد باتن الزعيم الحالى لحزب «استقلال بريطانيا» الذى يدافع عن مرشحى حزبه العنصريين بدعوى أنهم يلجأون «للسخرية السياسية كوسيلة للتعبير»، إلي تومى روبنسون، الزعيم السابق لرابطة الدفاع الإنجليزية اليمينية المتطرفة، مروراً بكارل بنجامين مرشح حزب «استقلال بريطانيا» الذى يستخدم لغة فجة وعنصرية نادراً ما شهدتها الحياة السياسة البريطانية. ويواجه بنيامين، الذى يترشح عن جنوب غرب انجلترا، إدانات واسعة النطاق أثر الكشف عن مقطع فيديو يعود لسنة 2015 أدلى فيه بتصريحات مسيئة للغاية حول النساء والأقليات العرقية والدينية. وعند سؤاله عن هذه التصريحات، قال لمحطة «سكاى نيوز» قبل أيام: أنا غير مهتم حقًا بمناقشة أى من هذه التعليقات لأنه، كما ترون، لديّ ما يقرب من 400 مليون مشاهدة على قنواتى على يوتيوب. لدى جمهور كبير، وإذا كان الناس يريدون الذهاب لرؤية ما أنشره، فيمكنهم الذهاب لمشاهدته على قناتى ورؤية السياق بأنفسهم. ورداً على سؤال حول ما إذا كان من المقبول «المزاح بشأن الاغتصاب» أجاب بنجامين «نعم». ورفض حزب «استقلال بريطانيا» التعليق على الفيديو أو تغريدة مرشحهم، لكن زعيم الحزب، جيرارد باتن، دافع فى السابق عن بنجامين على أساس «حرية التعبير». ووسط حالة من الذهول للمستوى الذى وصلت إليه السياسة البريطانية، عبر النائب العمالى ديفيد لامى عما يدور فى ذهن الكثيرين عندما قال: «لا يمكن للكلمات أن تعبر عن مدى الحزن العميق لأننا فى بريطانيا فى عام 2019 لدينا أناس مرشحون فى انتخابات يستخدمون كلمة «زنجى»، هذه هى أيديولوجية الكراهية. يجب مواجهتها وهزيمتها». وأصبح النقاش السياسى أكثر سريالية وغرابة عندما تدخلت الشرطة البريطانية، المشتتة بالفعل بسبب ارتفاع معدلات الجريمة، لمطالبة تومى روبنسون بالتوقف عن تقديم «هوت دوج» و«الهامبرجر» مجاناً فى تجمع انتخابى. روبنسون، المعروف بآرائه المعادية للإسلام والمهاجرين، والمستشار الجديد لزعيم حزب «استقلال بريطانيا»، جيرارد باتن، تحدث الأسبوع الماضى، أمام حشد من حوالى 300 من مؤيديه, وخلال حديثه استخدم روبنسون خطابا عدائيا كريها يقوم على تصوير الهوية الإنجليزية بأنها تواجه «حرب إبادة» من المهاجرين والأقليات. ظهور هذا النوع من السياسيين فى بريطانيا يشكل مصدر قلق للسياسيين من الأحزاب التقليدية. فالنائب العمالى مايك كين قال إن تومى روبنسون «غير مرحب به هنا لنشر كراهية الإسلام والأجانب والعنصرية». كما حثت منظمة «الأمل لا الكراهية» الناخبين على معارضة «اليمينى المتطرف»، فى إشارة إلى روبنسون. ووصف نيك لوليس، الرئيس التنفيذى للمنظمة التى تعمل على محاربة التطرف والعنصرية، روبنسون بأنه سفاح من أقصى اليمين يستخدم منصته للتنمر وإساءة المعاملة وإثارة الانقسام داخل المجتمع. وعلى الرغم من كل الجدل حول روبنسون، الذى ُسجن من قبل بتهمة التحريض على الإسلام وكان أحد الرموز التى ألهمت منفذ مذبحة المسجدين فى نيوزيلندا، إلا أن المتحدث باسم حزب «استقلال بريطانيا»، قال إن روبنسون سيستمر فى عمله كمستشار لزعيم الحزب. تاريخياً، وجدت أيديولوجية اليمين المتطرف صعوبة بالغة فى اختراق المجتمع البريطانى المحافظ والوسطى بطبعه. فقبل البريكست كانت بريطانيا محصنة ضد مرض انتشار جماعات اليمين الشعبوى التى حققت انتصارات فى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا على سبيل المثال. لكن كابوس البريكست يجر الثقافة السياسية البريطانية نحو مستنقع غير مألوف ومع التغيير السريع واللافت للمشهد السياسى، فإن الخطر الذى تواجهه بريطانيا لم يسبق له مثيل.