اصطلح على اعتبار الشعر العربى المعاصر هو الشعر الذى بدأ بعد الحرب العالمية الثانية أى فى أربعينيات القرن العشرين، وقد تَجَلَّتْ فى هذا الشعر وحدة الملامح وعمومية جماليات القصيدة العربية، فلم يتميز شعر كل قطر عربى بمميزات تميزه عن شعر القطر الآخر لا فى اللغة ولا فى الموسيقى ولا فى المضمون الأساسى. أما العصر الحديث الذى سبق الشعر المعاصر والذى بدأ بعد الحملة الفرنسية على مصر والذى لم يتجاوز قرنين من الزمان، فقد حفل بالتطورات الثقافية والفنية التى لم تعرفها قرون من عمر الشعر العربى سابقة عليه، والحق أن الشعر العربى المعاصر قد حقق أكبر ثورة فى تاريخ الشعر العربى شكلا ومضمونا. بدأت ثورة الشعر العربى المعاصر بقصائد محمد مهدى الجواهرى وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتى فى العراق وعلى أحمد باكثير وعبد الرحمن الشرقاوى وصلاح عبد الصبور ثم أحمد عبد المعطى حجازى فى مصر ثم قصائد المجددين الآخرين فى كل الأقطار العربية. كانت قصيدة السياب «هل كان حبا» تمثل هزة شديدة للبنية العروضية السائدة آنذاك. ولكن اندفاعها بعد ذلك ارتفع بالقصيدة المعاصرة إلى مستوى تعبيرى ورؤيوى مغاير تماما لما كان سائدا فى الشعر العربى لقرون طويلة، كما يقول بحق الشاعر والناقد العراقى على جعفر الَعلَّاق.فى قصيدة السياب «العودة لجيكور» جيكور، جيكور: أين الخبزُ والماءُ ؟/ الليل وافى وقد نام الأدلاَّءُ ؟/ والركبُ سهرانُ من جوعٍ ومن عطشٍ/ والريح صَرٌّ، وكل الأفق أصداءُ/ بيداءُ ما فى مداها ما يبين به دربٌ لنا وسماء الليل عمياءُ/ جيكور مدِّى لنا باباً فندخلَه/ أو سامرينا بنجم فيه أضواءُ!/ من الذى يسمع أشعاري؟/ فإن صمْت الموت فى داري/ والليلَ فى ناري/ من الذى يحمل عِبءَ الصليبْ/ فى ذلك الليل الطويل الرهيبْ؟ من الذى يبكى ومن يستجيبْ/ للجائع العاري؟/ من يُنزل المصلوبَ عن لَوحِهِ؟/ من يطرد العقبان عن جرحهِ؟/ من يرفع الظلماء عن صبحهِ؟/ ويُبدل الأشواكَ بالغارِ؟/ أَوَّاهُ يا جيكور لو تسمعينْ!/ أواه يا جيكور.. لو توجَدين!/ لو تنجبين الروحَ، لوتُجهضين/ كى يُبصر الساري/ نجماً يضيء الليلَ للتائهين. وفى القصيدة التى كتبها السياب عن نهر «بويب» يقول: بُوَيْبْ/ بُوَيْبْ/ أجراسُ بُرجٍ ضاع فى قرارة البَحَرْ/ الماء فى الجرار، والغروبُ فى الشَّجَر/ وتنضجُ الجرارُ أجراساَ من المطرْ/ بلُّورُها يذوب فى أنينْ/ «بُوَيْبُ... يا بُوَيبْ»!،/ فيَدْلَهمُّ فى دمى حنينْ/ إليْكَ يا بُوَيْب،/ يا نهرى الحزينَ كالمطرْ/ أودُّ لو عدوْتُ فى الظلامْ/ أشدُّ قبْضتى تحملان شوْقَ عام/ فى كلِّ إصبَعٍ، كأنى أحملُ النُّذورْ/ إليكَ، من قمحٍ ومن زهور/ أودُّ لو أُطلُّ من أسّرةِ التلال/ لألمحَ القَمَرْ/ يخوض بينَ ضفتيكَ، يزرع الظلالْ/ ويملأ السِّلال/ بالماء والأسماكِ والزَّهرْ/ أودُّ لو أخوض فيكَ، أتبعُ القمرْ/ وأسمعُ الحصى يصلُّ منك فى القرار/ صليلَ آلافِ العصافير على الشجر/ أغابةٌ من الدموعِ أنت أم نَهَرْ؟ ويلاحظ فى شعر السياب اعتماده الأسطورة ورموزها وتضمين قصائده رؤى أسطورية ورمزية رائعة كما يلاحظ فى شعره عنايته الشديدة بخلق الصور الشعرية الباهرة وبالموسيقى الواضحة بكل عناصرها المتمثلة فى الوزن والقافية وبإحكام اللغة. ولعل قصيدة السياب «غريب على الخليج» -التى كتبها فى الكويت عام 1953 - تمثل تلك الثورة العارمة التى أشعلها فى شعرنا المعاصر، ومنها يقول: الريح تلهث بالهجيرة كالجثام على الأصيلْ/ وعلى القلوع تظل تُطوى أو تنشّر للرحيلْ/ زحم الخليجَ بهنّ مكدحون جوّابو بحارِ/ من كل حاف نصف عاري/ وعلى الرمال على الخليجْ/ جلس الغريب يسرّح البصرَ المحيّر فى الخليجْ/ ويهد أعمدة الضياءِ بما يصعّد من نشيجْ/ أعلى من العَبَّاب يهدر رغوُه ومن الضجيجْ/ صوت تفجر فى قرارة نفسى الثكلي: عراقْ/ كالمد يصعد كالسحابة كالدموع إلى العيونْ/ الريح تصرخ فىّ مُعْوِلَةً عراقْ/ والموج يعول بى عراقُ، عراقُ، ليس سوى عراقْ/.