تصاعدت الدعوة الى تأسيس بنك وطنى قبل وخلال الحرب العالمية الأولى. وكتب أحمد لطفى السيد مقالا بعنوان «الحالة الحاضرة» نشر فى 18 مايو 1908 يقول: إن امتناع المصريين عن محاكاة الأجانب فى فتح البنوك وتكوين الشركات الأجنبية، إنما يبتعد بهم عن تحقيق الاستقلال الحقيقى. وكان المقال واحداً من أولى المؤشرات على أن الرأسمالية المصرية الصاعدة كانت تعتبر إقامة بنك وطنى وسيلة للتحرر من الاعتماد على رأس المال الأجنبى. لكن دعوة تأسيس هذا البنك لم تتحقق قبل ثورة 1919؛ مع تأسيس بنك مصر فى عام 1920. وأسجل، أولا: أن مؤسسى بنك مصر لم يكن هدفهم أن يكون بنكاً تجارياً عادياً وإنما القوة المحركة لقيام قطاع صناعى حديث؛ كمصدر للقروض الصناعية، ومركز لشركة قابضة كبرى. وفى حفل تأسيسه أشار طلعت حرب، المؤسس والقائد الفعلى للبنك ومجموعة شركاته، الى أنه فى مصر أموال كثيرة معطلة ومخزنة، وفى هذا ضياع للفائدة التى تعود على أصحابها وعلى البلاد، وأن الودائع والمدخرات يستثمر معظمها خارج البلاد، دون أن تسهم فى تطوير الاقتصاد وزيادة الثروة المصرية، وأن المصريين لم ينوعوا طرق استثمارهم وذهبت أموالهم فى شراء الأرض وضاعت هباء فى رفع أسعارها. وكما فى كل البلدان التى بدأت التصنيع، كان إنشاء بنك مصر فى عام 1920 نقطة انطلاق التصنيع الرأسمالى الوطني؛ حيث كان أول بنك تجارى وطني- رأسمالاً وإدارة- يقوم بالدور الرائد فى تجميع المدخرات الوطنية اللازمة لتقوية المواقع المالية للرأسمالية الصناعية الصاعدة. وفى قيادته للتصنيع كان تأسيس شركة مصر لحليج الأقطان عام 1924 بداية تأسيس مجموعة شركاته الصناعية. وفى عام 1927 أسس البنك أهم شركاته الصناعية، وهى شركة مصر للغزل والنسيج فى المحلة الكبرى، حيث فتح تصنيع محصول البلاد الزراعى الرئيسى الطريق أمام انتصار الصناعة المصنعية الرأسمالية الحديثة فى هذا الفرع القيادى للصناعة التحويلية. وثانيا: أن تأسيس بنك مصر للصناعة الوطنية الرأسمالية الكبيرة كان انتصارا مهما فى الصراع بين الحركة الوطنية والاستعمار، بعد عقود من عداء الاحتلال البريطانى السافر لتصنيع مصر؛ خاصة تصنيع القطن فى بلده. وكان الزخم الوطنى لثورة 1919 محفزا لتلبية المصريين دعوة طلعت حرب للمساهمة فى تأسيس بنك مصر ومجموعة شركاته خاصة الصناعية. فقامت الأخيرة منذ البداية كبيرة وقادرة على مواجهة المنافسة الأجنبية الضارية الوافد. وبذلت الحركة الوطنية المصرية جهودا هائلة لجذب الودائع الى بنك مصر وجذب الاستثمارات الى شركاته. وفى مواجهة تحدى التصنيع شاركت قطاعات واسعة من المجتمع بنك مصر، بل وساندته معظم- إن لم يكن كل- الحكومات التى تولت الحكم عقب ثورة 1919. وتمكن البنك من تعبئة مدخرات صغار المساهمين والمودعين من المصريين، وجذبهم الى ميدان معركة تصنيع مصر، وتمصير نشاط الأعمال الرأسمالى الصناعى الحديث، والحد من الهيمنة المطلقة للاحتكارات الأجنبية. وثالثا: أن دور بنك مصر فى تعبئة المدخرات الوطنية يتضح من مؤشرات أهمها: أن رأس مال البنك الابتدائى والمدفوع للبنك قد زاد بأكثر من 12 مرة بين عام 1920 وعام 1927، وزادت احتياطياته وأرباحه غير الموزعة بنحو 643 مرة بين عام 1921 وعام 1951، ومثل رأسمال البنك واحتياطيه فى عام 1951 نحو 26% من إجمالى رءوس أموال واحتياطيات البنوك التجارية العاملة فى مصر. كما زادت الودائع لدى البنك بنحو 306 مرات بين عام 1920 وعام 1951، وزادت ودائع الحكومة لديه بغرض إقراض الصناعات القائمة بنحو 20 مرة بين عام 1920 وعام 1936. وأما إجمالى الودائع لدى البنك فقد بلغ أكثر من 24% من إجمالى ودائع البنوك التجارية العاملة فى مصر فى عام 1951. وقد أسس بنك مصر واشترك بنصيب مسيطر فى تأسيس العديد من الشركات الصناعية وغير الصناعية، وبلغ نصيبه فى ملكية بعض الشركات 90 % أو أكثر، وكان يقرض شركاته الصناعية قروضا متفاوتة الأجل لتمكينها من القيام بالتوسعات، ووصلت قروضه الى أرقام كبيرة بالقياس الى رأسمال تلك الشركات، وتولى الأعضاء المنتدبون من بنك مصر ادارة معظم شركاته. وقد بلغ رأسمال شركات بنك مصر الصناعية، التى أسسها بين عامى 1922 و 1938 حوالى 45% من رأسمال جميع الشركات الصناعية المساهمة التى تأسست فى الفترة نفسها، شاملة تلك التى سيطر عليها رأسمال أجنبى. ورابعا، أن مصانع مجموعة شركات بنك مصر فى عام 1938 أنتجت أكثر من نصف إجمالى منتجات الغزل والنسيج للصناعة المصنعية فى مصر، وفى عام 1948 كان يعمل فى مصانع المجموعة حوالى 20% من إجمالى العاملين فى المصانع التى تستخدم 10 عمال فأكثر. وفى عام 1946 امتلكت شركتا مصر للغزل والنسيج فى المحلة الكبرى وكفر الدوار حوالى 62% من إجمالى المغازل الآلية التى امتلكتها 12 شركة قائمة فى مصر. وفى عام 1949 سيطر بنك مصر على 35% من إجمالى رءوس أموال مؤسسات صناعة الغزل والنسيج فى البلاد. وقد حازت شركتا مصر للغزل والنسيج فى المحلة الكبرى وكفر الدوار أكثر من 45% من إجمالى رءوس الأموال الابتدائية لشركاته، ونحو 49% من اجمالى رءوس الأموال المدفوعة لجميع شركاته، وبلغت أرباحهما حوالى 66 % من إجمالى أرباح شركاته حتى عام 1953. وباستبعاد شركتى مصر صباغى البيضا ومصر للحرير الصناعى، اللتين تم تأسيسهما بمشاركة رأسمال أجنبى ولم يسيطر عليهما البنك، تلقت شركتا مصر للغزل والنسيج قروضا من البنك بلغت حوالى 197% من اجمالى رأسمالهما المدفوع فى عام 1939، حين قدم أكبر حجم من قروضه لشركاته الصناعية. واختم بأن المسيطرين على البنك، كانوا مجموعة محدودة من الأشخاص متضاربة المصالح؛ جمعت بين نشاط الأعمال الرأسمالى الصناعى، والنشاط الزراعى شبه الاقطاعى، وأعمال الوكالة لرأس المال الأجنبى. وكانت غلبة المصالح غير الصناعية للمسيطرين، والأهم موقف البنك الأهلى المصرى (الانجليزى ملكية وإدارة) والقائم بمهام البنك المركزى الرافض لإقراض بنك مصر لمواجهة أزمة سحب الودائع منه مع نذر الحرب العالمية الثانية، وراء اصدار قانون دعم بنك مصر فى عام 1939، الذى جمد دوره فى استكمال مشروعه لتصنيع مصر حتى عام 1952، رغم تعاظم قدراته المالية. لمزيد من مقالات د. طه عبد العليم