يقول عبد الرحمن الرافعى فى كتابه أسباب ثورة 1919- تاريخ مصر القومى من سنة 1914 إلى سنة 1921 مع أنه لم يدع أحد أن أى إصلاح يُعمَل لأمة على يد دولة أجنبية غاصبة يَعدِل استقلالَها وحريتَها؛ فإن سنوات الاحتلال البريطانى كانت سنوات تأخر وانحطاط، لا سنوات تقدم وإصلاح. ويضيف أن بعض الكتاب المغرضين قد زعموا أن الرخاء فى مصر كان من أسباب ثورة سنة 1919، وهذا مسخ وتشويه للحقائق، إذ أن الثورة، من الوجهة الاقتصادية، هى رد فعل ضد ما عاناه المصريون قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها. وأسجل، أولا، أنه لم يكن من ثمار الاحتلال البريطانى لمصر تخفيف الضرائب على الفلاحين وتحسين شروط تعاملهم مع الوسطاء والسماسرة من تجار القطن وموردى التقاوى والمرابين؛ كما زعم استاذ الاقتصاد البريطانى باتريك أوبريان؛ مزيفاً النتائج الفعلية للاحتلال البريطانى. فقد تضاعفت المساحة المزروعة قطنا بين عامى 1879 و 1913، ولكن تراجعت المساحة المحصولية للذرة والبرسيم, التى مثلت غذاء الفلاحين وحيوانات العمل. ومنذ أقرت الملكية الخاصة التامة للأرض فى عام 1891 فقد الفلاحون أراضيهم المرهونة على نطاق واسع، خاصة حين كانت تهبط أسعار القطن. وقد دفع التجريد الواسع لأراضى الفلاحين المرهونة الى إصدار ما سمى بقانون الخمسة أفدنة, الذى منع تقديم القروض الى الفلاحين بضمان أراضيهم. وقاد القانون الى امتناع بنوك الرهن العقارى الأجنبية عن إقراضهم، وهو ما دفع بالفلاحين للاقتراض من التجار والمرابين الأجانب بضمان المحاصيل والأرض ومقابل أسعار فائدة أعلى. ورغم هذا، فقد استطاع البنك العقارى المصرى وحده أن ينزع ملكية أكثر من 1.1 مليون فدان بين عامى 1911 و 1914. وفى سبيل دفع الضرائب اضطر الفلاحون للاقتراض بفوائد باهظة وبيع محاصيلهم بأثمان بخسة، وارتفع عدد الحجوزات على الأراضى من نحو 17 ألفا سنة 1913 إلى نحو 42 ألفا فى عام 1914- 1915. وفى موسم قطن 1918، احتكرت الحكومة محصول القطن جميعه ومعه ما كان مخزونا من محصول 1917، وذلك للاحتفاظ للإمبراطورية البريطانية وحلفائها باحتياجاتهم، وحددت ثمن شراء القطن ب 42 ريالاً للقنطار، بينما كان يباع فى ليفربول ب 75 ريالاً!! وقد اعترف وزير المستعمرات البريطانى لورد ملنر فى تقريره الذى تناولته فى المقال السابق بأثر هذا الاحتكار فى تفجير ثورة 1919. وثانيا، أن الأمة المصرية أخذت تشعر بأن المصالح الأجنبية طغت على الاقتصاد القومى فى ظل الاحتلال وتحت رعايته، وأن نفوذ البنوك والشركات والمتاجر والمصانع والبيوت الأجنبية قد تغلغل فى حياة البلاد الاقتصادية، مما أفضى إلى استعباد الشعب مالياً واقتصادياً، إلى جانب ما عاناه من الاستعباد السياسى؛ وكانت مناصرة الاحتلال لهذه الأوضاع من أسباب نقمة الشعب على السياسة البريطانية. ومع نشوب الحرب العالمية الأولى هبط سعر القطن تدريجياً إلى نحو عشرة ريالات، وكان سعره قبلها 4 جنيهات، فعم الكساد، واشتد الضيق بالمزارعين، من ملاك وفلاحين، وسرى الضيق إلى الطبقات الأخرى، حيث كان القطن عصب الحالة الاقتصادية فى مصر. وأحجمت البنوك العقارية عن التسليف بضمان القطن، وأخذت تقسو فى المطالبة بإقساطها وكان هم الحكومة فى هذه المأساة أن يتم لها تحصيل الضرائب فى مواعيدها، فبلغ الضيق غايته، وساءت حالة الزراع. وفى سنة 1914 اضطر المزارعون الى بيع قنطار القطن بستين قرشاً للقنطار، فكان هذا الخراب بعينه. وبأوامر المستشار المالى البريطانى ساهمت الحكومة فى اشتداد الكارثة، حيث أكرهت معظم الزراع على بيع ما لديهم من مصاغ ذهبية وماشية ودواجن، ودفعتهم للاستدانة من المرابين بربا فاحش لسداد الضرائب الثقيلة. وثالثا، إن أسعار القطن أخذت تصعد تدريجيا فى السنوات التالية، وتوقع المصريون أن يعوضهم هذا بعض ما خسروه فى سنوات الشدة. لكن الحكومة مجددا وبأوامر المستشار المالى حالت دون استمرار صعودها، حين قررت فى يونيو سنة 1917 تحديد أسعار القطن بما يقل عن سعرها الحقيقى. كما اقترن الارتفاع النسبى فى أسعار القطن باشتداد وطأة الغلاء على السواد الأعظم من الشعب، ففاض سخطاً وحنقاً. واحتكرت الحكومة البريطانية بذرة القطن جميعها من محصول سنة 1917 بسعر أقل من سعرها الحقيقى، وحصرت تصديره فى عدد محدود من البيوت الأجنبية، التى ضاعفت أرباحها على حساب الفلاح البائس. وفى موسم سنة 1918 أصيبت مصر بخسارة اقتصادية فادحة، إذا احتكرت الحكومة البريطانية محصول القطن جميعه؛ وبررت هذا بضرورة سد الحاجات الضرورية للإمبراطورية البريطانية والحلفاء! وبلغت خسارة المصريين جراء هذا الاحتكار نحو 32 مليون جنيه، وقد وقع هذا الاحتكار على ما كان مخزوناً لم يتم بيعه من محصول سنة 1917. ورابعا، أن جميع موارد مصر من الرجال والمهمات والمؤن والمواشى والحاصلات الزراعية والصناعية وضعت تحت تصرف السلطة العسكرية البريطانية، وصارت الحكومة المصرية تعمل بلا كلل لتقديم كل المساعدات اللازمة للجيوش البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى. وقد نشرت جريدة رائد العمال الإنجليزية فى 3 إبريل سنة 1919 مقالاً عن ثورة مارس 1919، قالت فيه: إن الأوامر البريطانية قد صدرت بأخذ العمال من الحقول بالإكراه، فإذا رفض أحدهم هذا التطوع الإجبارى! جُلِد حتى الإقرار بالقبول، فساقوا أطفالاً من سن 14 سنة، وشيوخاً فى سن السبعين ويزيد! وكانت الجموع المريضة من هؤلاء المساكين تساق لتأدية الأعمال الحربية، وكان الكرباج كفيلا بتسخيرهم من غير حساب فى الأعمال الشاقة، وأصبح الجلد من الأعمال اليومية!! وأما سوء الغذاء ورداءة الكساء وقلة الغطاء، وحيث يلتحف هؤلاء المساكين السماء ويفترشون الغبراء، فقد جعلهم فريسة الأمراض الوبائية، وكانوا يموتون كالذباب فى الصحراء! وكثيراً ما رفض السماح لهؤلاء العمال بالعودة إلى بلادهم عند انتهاء مدتهم حسب الوعود المعطاة لهم، وبمصادرة الجيد من حميرهم ودوابهم أصبحت الأعمال الزراعية متعذرة، وارتفعت أثمان الحاجيات بمصادرتنا للمحصولات الزراعية، فعم الغلاء، وساءت حالة الفقراء والعمال بدرجة عظيمة! وتختم الجريدة: هل بعد هذا نستغرب إذاً بلغ الكره لنا والحقد علينا مبلغهما فى قلوب المصريين!. لمزيد من مقالات د. طه عبدالعليم