احضنوا الأيام لتجرى من إيدينا أحلى ايام الهوى راحت علينا دائما ما تستوقفنى كلمات هذه الأغنية العميقة على بساطتها، ودائما ما أتساءل عن هذا الشاعر الذى يطلب منا أن نحتضن الأيام قبل أن تنفلت من أصابعنا، وأقول بينى وبين نفسى إنه لا بد وأن يكون دارسا للفلسفة، أو قارئا متعمقا فى كتب الحكمة المختلفة، ولما أن عرفت سيرته الذاتية، أدركت أن حدسى فى محله، فهو بالرغم من أنه يعمل مكوجيا، وبالرغم من أنه لم يدرس الفلسفة فى أى كلية، وربما لم يكن متعمقا فى قراءة كتب الحكمة المختلفة، إلا أنه، بطريقة أو بأخرى، عارف بكل مشكلات الإنسان، هذه المعرفة التى تتيح له أن يطرح الأسئلة الكبرى فى بساطة متناهية. ........................................................ فى أزمنة قديمة، كان الحب حقيقيا، وكان المكوجى وهو يقوم بكى القميص، ينظر فى عينى الخادمة التى تكون ساعتها واقفة على باب الدكان فى انتظار انتهاء الكى، وكان ثمة كلام تقوله العيون للعيون، وتحس به الأفئدة، لم يكن القميص وحده هو الذى يُكْوَى، القلوب أيضا كانت شديدة السخونة، وكان لكل إشارة معنى، ولكل كلمة مدلول، يعرفه العشاق وحدهم، ولو كانوا فى جمع مجموع من الناس، حتى تطبيقة القميص بعد كيه تحمل رسالة من المكوجى للخادمة، ومشيتها فى الشارع بعد أن تحمل القميص، تحمل ردا على هذه الرسالة. الشاعر «مأمون الشناوى» كان على موعد مع الموسيقار «محمود الشريف» ليسمعه أغنيته الجديدة، وضع يده فى جيب بنطلونه، واستخرج الورقة التى كتبها فيها، وبدأ يقرأ: ع الحلوة والمرة مش كنا متعاهدين ليه تنسى بالمرة عشرة بقى لها سنين. قرأ هذا الكلام، وأخذ يقلب الورقة، ويطبقها، ويعيد فردها، الموسيقار «محمود الشريف» اندهش من أفعال صديقه، فسأله: الكلام جميل جدا، فلماذا توقفت عن قراءته؟ باندهاش أكبر أجابه الشاعر «مأمون الشناوى»: هذا الكلام ليس كلامى، فمن الذى وضعه فى البنطلون؟ رد عليه صديقه وهو يبتسم: لا بد أنك نسيت هذه الورقة فى جيب بنطلونك منذ فترة، ولا بد أنها قصيدتك، ولكنك كعادتك تنسى. بحدة أجابه الشاعر: أنسى أى شيء إلا الشعر، ثم إن هذا الخط ليس خطى، هذا لغز كبير، وينبغى أن أحله الآن. وتركه وعاد إلى بيته ما إن فتحت له الخادمة حتى صرخ فى وجهها: من الذى وضع هذه الورقة فى جيب بنطلوني؟ فى أزمنة قديمة، كان العاشق يرسل إلى حبيبته خطابات ورقية ملتهبة، وكثيرا ما كانت تفوح من هذه الخطابات روائح القلوب المحترقة، وفى هذه الأزمنة القديمة، كانت الخادمات يحسن القراءة والكتابة، وكان المكوجية بارعين فى صياغة عواطفهم فى جمل إنشائية تذيب قلوب هاتيك الخادمات، وترقق عواطفهن لذا، ما إن فرد الشاعر «مأمون الشناوى» الورقة أمام عينيها، حتى شمت رائحة قلب حبيبها المحروق، فاعترفت لسيدها بكل شيء. عندما وقف المكوجى أمام الشاعر، كان يعرف أنه واقف أمام رجل كبير، له قلب كبير، وله شعر كبير، وهو يحفظ كل الأغنيات التى غناها له «محمد عبد الوهاب» و «فريد الأطرش» و «عبد الحليم حافظ» و الأغنيات التى غنتها له «أم كلثوم» و «أسمهان» و «ليلى مراد»، فقال له بكل صراحة ووضوح: أنا صاحب الرسالة. وحكى له حكاية حبه للخادمة التى كانت تتدلل عليه، وتخاصمه بلا سبب منطقى، مما اضطره لأن يكتب لها ما كتبه من كلام. نظر إليه «مأمون الشناوى»، فوجده رجلا ناضجا، لم يكن شابا، لكنه لم يكن عجوزا، كانت ملامحه حادة، وعيناه متوهجتين، وملابسه، على بساطتها، مكوية بعناية فائقة. فى أزمنة قديمة، كان الشاعر يفرح بميلاد شاعر جديد، ويقدم له كل ما يستطيع أن يقدمه له، فوقف، وأمسك يد المكوجى العاشق، وأركبه سيارته، واتجه به مباشرة إلى الموسيقار «محمود الشريف»، وقال له بابتهاج كبير: هذا هو الشاعر صاحب القصيدة التى كانت فى بنطلونى، والتى أعجبتك، وأتمنى أن تلحنها، فهو شاعر حقيقى. . »محمود الشريف» سأل المكوجي وما اسمك؟ كان المكوجى فى حالة متناهية من الارتباك، حتى إنه كان يتصبب عرقا، فها هو يجلس أمام شاعر كبير وملحن كبير، وها هو يقف على عتبة الفرح، بتلعثم أجابه: اسمى «سيد مرسى». الشاعر «مأمون الشناوى» طلب من «سيد مرسى» أن يقرأ القصيدة، وأعطاه الورقة، لكنه لم يفردها، فهو يحفظها عن ظهر قلب، وقرأ بصوت فرحان: ازاى يهون حبنا وتروح متسألشى دى العشرة عندى أنا غالية ولا تهونشى وإن طال عليا الأمل شارى ولا أبيعشى ومهما طال الأجل حبك ما بيضيعشى راح تنسى كام مرة هاتسيبنى كام مرة وتفرح اللايمين عالحلوة والمرة مش كنا متعاهدين ليه تنسى بالمرة عشرة بقالها سنين. سأله الموسيقار: منذ متى وأنت تكتب الشعر؟ أجابه: منذ صباى يا سيدى، ولدى كراسة فيها أغنيات كثيرة. وقف الموسيقار، وقال له: أحضر لى هذه الكراسة. البداية كانت مع «محمود الشريف» الذى لحن له (ع الحلوة والمرة) وغناها «عبد الغنى السيد»، لكن كلماته التى امتلأت بالمعانى الشعبية السيارة، وخفة الدم المصرية، جعلت الموسيقار «بليغ حمدى» متخصصا فى أغلب ما يكتبه هذا الشاعر الممتلئ حكمة وبساطة وشعبية، فلحن له (ردوا السلام) ل «عفاف راضى»، و (والنبى وحشتنا) ل «شادية» و (سلم عليّ) ل نجاة الصغيرة، و (أول وآخر حبيب) ل «ميادة الحناوى»، بالإضافة لعدد غير قليل من أغنيات «وردة الجزائرية». فى أزمنة قديمة، كان الحب حقيقيا، وكان العشاق حقيقيين، وكان الشعراء حقيقيين، وكان «سيد مرسى» المكوجى العاشق، يكوى قمصان وبنطلونات منازل بولاق الدكرور، وهو يستمع من الراديو المعلق فى رف دكانه إلى كلماته بصوت «هدى سلطان» و «فهد بلان» و «فايزة أحمد» و «ليلى مراد»، و «سعد عبد الوهاب» و «محمد قنديل»، ولا بد أنه كان ممتنا جدا لرجل عظيم اسمه «مأمون الشناوى». مرت الأيام، واختلف المزاج الغنائى للشعب المصرى، كان «سيد مرسى» قد كبر وشاخ، ولم يعد أحد من المطربين أو الملحنين يطلب منه كلمات ليغنيها، كان قد أغلق دكانه، فقمصان الزبائن وبنطلوناتهم لم تعد لها رائحة الصدق والحنين. فى عام 1994 غير الشاعر «مأمون الشناوى» عنوانه، وانتقل من حال المجالسة إلى حال المؤانسة، كان فى الثمانين من عمره عندما مات، وفى ركن منزو من سرادق عزائه، جلس رجل عجوز تجاوز المائة عام، فى ثياب بسيطة، ولكنها مكوية بعناية فائقة، وملامح مكرمشة، كان أكثر الحاضرين حزنا على الفقيد الراحل، ولا بد أن ذكريات كثيرة كانت تزدحم فى رأسه، ومن بين هذه الذكريات، ذكرى خادمة لعوب، كانت تحسن القراءة والكتابة، وكان يكتب لها كلمات ملتهبة فى خطابات ورقية، تفوح منها رائحة القلوب المحترقة.