الذين لم يعيشوا الفترة قبل يوليو 1952، يصعب عليهم تقبل ما يقال عن إيجابياتها وثبات الخطى على طريق التقدم على طريق نهضة مصر التى أرسى دعائمها محمد على باشا فى بداية القرن التاسع عشر. وهناك فرق واضح بين من عاش هذه الفترة وعايش أحداثها، وبين من سمع أو قرأ أو عرف من خلال طوفان المعلومات والشائعات التى استهدفت تثبيت أقدام الحكام الجدد بتشويه كل ما كان قبلها وتصويره على غير حقيقته. نعم كان هناك استعمار إنجليزى وقصر ملكى وحياة سياسية مليئة بالصراعات لكن كل هذا لم يمنع وجود تجربة ديمقراطية ناضجة وحيوية وتمتلك كل فرص التطور وتصحيح المسار. وأقول تجربة ديمقراطية لا نظاما ديمقراطيا، والفرق بين المصطلحين كبير. وكان هناك أيضا فساد، وعن هذا الفساد أصدر مكرم عبيد كتابا حمل عنوان «الكتاب الأسود» لفضح هذا الفساد والمطالبة بمحاسبة مصطفى النحاس باشا رئيس الوزراء لتورطه فى هذا الفساد. والواقعتان اللتان تضمنهما الكتاب تتمثلان فى شراء قطعة فراء بحجم جلد أرنب للسيدة زينب الوكيل حرم رئيس الوزراء، وترقية موظف إلى الدرجة السادسة. ولقد كان الذين عاشوا هذه الفترة من المحظوظين لأنهم أنهوا دراستهم بالمدارس الحكومية (الأميرية) وبالجامعات المصرية كانت مستويات المنظومة التعليمية شديدة الجودة وتناظر مثيلاتها بالخارج. ولست أدرى لماذا يغضب البعض عندما يتأتى ذكر قوة الجنيه، العملة المصرية وكما هو معروف فإن قوة العملة تعكس قوة الاقتصاد. ولن أقول إن الجنيه المصرى كان يشترى جنيها استرلينيا وانجليزيا، وشلنا لكنى سأذكر اننى غيرت الجنيه المصرى ب 12 ماركا ألمانيا غربيا فى بداية النصف الثانى من خمسينيات القرن الماضي، وعندما شغلت منصب مدير مكتب الأهرام بألمانيا خلال تسعينيات القرن الماضي، بلغ سعر المارك الغربى أكثر من عشرين جنيها، ويا لها من مفارقة أن اشترى 12 ماركا بجنيه مصرى ثم أعيش لأشترى المارك بعشرين جنيها وأكرر أن قوة العملة تعكس قوة الاقتصاد وهؤلاء الغاضبون يغضبون جدا عندما تقول، إن القاهرة فازت بالمركز الأول فى النظافة والتنسيق عام 1925 متفوقة بذلك على كل العواصم الأوروبية ما الذى يسبب لهؤلاء الأوجاع فى ذكر هذه الحقيقة؟ هل هى المقارنة بالحاضر والتى أصبحت فيه القاهرة واحدة من أسوأ العواصم فى مجال النظافة؟ وبالمناسبة فى بداية الخمسينيات فاز حى مصر الجديدة بالقاهرة بالمركز الثانى بعد حى فى مدينة كييف الروسية الذى اعتبره المحكمون أجمل الأحياء فى مدن العالم، وفى نفس الوقت تقريبا اختار اليونسكو الاسكندرية لتكون أجمل موانى حوض البحر المتوسط. الذين عاشوا هذه الفترة لا يعرفون هذه الحقائق فقط، بل كانوا سعداء بها. طبعا كانت هناك أسباب للغضب، وكثيرا ما عبروا عن غضبهم إما بالكتابة وإما بالتظاهر. وفى حالة التجاوز كانت السلطة تقدم على إلقاء القبض على المتجاوزين، وإذا ما كانوا من السياسيين أو الكتاب أو الصحفيين فإنهم كانوا يسجنون فى سجن الأجانب الذى كان موجودا بالقرب من منطقة باب الحديد ميدان رمسيس الآن، ولمجرد العلم فإن هذا السجن الذى تم هدمه يمكن اعتباره فندقا خمس نجوم قياسا بأى سجن آخر الآن. وقد استقبل هذا السجن العقاد بعد أن هاجم «أكبر رأس فى البلاد» وكان يقصد الملك. أما إحسان عبد القدوس، فقد قضى فترة عصيبة جدا بسجون النظام القاسية مثل السجن الحربى والقلعة وتعرض لتعذيب قاس لمجرد أنه كتب مقالا عن «الجماعة السرية التى تحكم مصر». لمزيد من مقالات عبده مباشر