الذين عاشوا ما يقرب من عقدين أو أكثر خلال العصر الملكى ثم واصلوا الحياة خلال العصر الجمهورى تعلموا أن يحمدوا الله على نعمة الحياة والعصر الملكى حتى لو كانوا خلاله من المعارضين أو الرافضين. وإذا ما بدأنا بمستوى التعليم فى ذلك العصر فإننا نؤكد أنه كان ممتازا بكل المقاييس، وعصريا، أما المدارس فلا يمكن أن نحلم بوجود مثلها لا الآن ولا بعد عقود، وأعنى المدارس الحكومية. فمدرسة الزقازيق الابتدائية الأميرية التى بدأت الدراسة بها بعد مرحلة رياض الأطفال لم يكن من الممكن الالتحاق بها إلا بعد امتحان قبول يتضمن الإملاء والحساب (جمع وطرح وقسمة وضرب) أى أن التلميذ الذى يرغب فى الالتحاق بمثل هذه المدرسة الحكومية عليه أن ينجح فى هذا الامتحان أولا. وببساطة يمكن القول إن بعض خريجى الجامعات الآن لا يجيدون أولا يمكنهم النجاح فى امتحان للإملاء، هذه المدر سة كانت تضم قسما للداخلية، استضاف تلاميذ من اليمن والسعودية والسودان زاملونا طوال سنوات دراستنا. وكان اليوم الدراسى يبدأ فى الساعة الثامنة صباحا ويستمر حتى الخامسة مساء، وخلال فسحة الساعة العاشرة صباحا نتناول جميعا وجبة إفطار مكونة من «سندوتشين» وفاكهة، أما فى الفسحة التى تبدأ بعد الحصة الخامسة، فالكل يتناول وجبة ساخنة فى مطعم المدرسة الأنيق تتكون من خضار ولحم وأرز وفاكهة وسلطة. وفى البداية نتعلم على أيدى المدرسين كيفية استخدام أدوات المائدة. وبجانب المبنى المكون من ثلاثة أدوار دورين للفصول ودور للقسم الداخلى - هناك المعامل ومنها معمل لفلاحة البساتين ومعمل آخر للكيمياء وصالة كبيرة للأشغال اليديوية من بينها صناعة السجاد الصوف والرسم على الخشب، أما الملاعب فتضم ملعبا لكرة القدم وآخر للسلة وثالثا للكرة الطائرة ورابعا لكرة الريشة وحديقة من عدة أفدنة لدراسة فلاحة البساتين وأنواع الزهور، ومسجد متوسط الحجم وبجواره كشك مخصص للكانتين. وكان الحاج فريد مدرس الحساب المسئول عن الكانتين يختار مجموعة التلاميذ الذين يتحملون مسئولية إدارة الكانتين من الألف للياء. وكانت هناك أنشطة متنوعة لا بد أن يشارك فيها الجميع منها الرسم والخطابة والتمثيل والرياضة والقسم المخصوص (رياضة) والموسيقى. وكانت بالمدرسة حديقة متسعة لأنواع مختلفة من الطيور. أما مدرسة الزقازيق الثانونية التى انتقلت إليها بعد انتهاء الدراسة بالمرحلة الابتدائية فكانت تضم إستادا لكرة القدم لا مجرد ملعب وصالة جيمانزيوم وملعبا للجمباز وملعبا للهوكى وملعبين للتنس بجانب ملاعب لكرة السلة والطائرة وحماما للسباحة. وإذا ما تحدثنا عن المدرسين، فيجب أن أقل أن مثل هذا النوع قد اختفى تماما فهؤلاء الرجال قد كرسوا حياتهم لتعليم الأبناء التلاميذ -وإذا ما لاحظ أحدهم أن مستوى البعض يحتاج إلى المزيد من العناية، فإنهم يقومون بالشرح لهم بعد انتهاء اليوم الدراسى مجانا ودون توقع أى مقابل. ومثل هذه العناية كانت متاحة لكل من يحتاج إليها أو من يطلبها من أجل التفوق. وفى مجال النظافة، فقد فازت القاهرة بالمركز الأول بين عواصم أوروبا ودول البحر المتوسط عام 1925 وكانت الأكثر نظافة وأناقة. ولِمَ لا والعمل من أجل هذا الهدف يشمل الجميع؟! فقد كانت البلدية تغسل شوارعها بالماء والصابون كل يوم ابتداء من منتصف الليل وحتى الخامسة صباحا، كما يتم رش شوارعها بالماء مرتين يوميا مرة فى الصباح والثانية عصرا. واختارت منظمة دولية حى مصر الجديدة كثانى أجمل الأحياء فى العالم عام 1950 بعد حى فى مدينة كييف. وإذا ما تحدثنا عن الاقتصاد فإننا نقول إن الجنيه المصرى كان عملة محترمة جدا و قوية، فخلال زيارة لألمانيا فى بداية النصف الثانى من خمسينيات القرن الماضى حصلت على 12 ماركا غربيا مقابل الجنيه. وكان الغطاء الذهبى للعملة المصرية عام 1952 - 61.5 مليون جنيه، ويمثل 33% من النقد المتداول. وكان حجم النقد المتداول 185 مليون جنيه -ارتفع ليصبح عام 1985 سبعة آلاف مليون جنيه، ثم واصل القفز بعد ذلك بصورة متوالية. أما الديون فى عام 2591 فبلغت 58 مليونا والمبلغ كله دين داخلى، وفى عام 5891 وصل حجم الدين إلى 31 مليار دولار، ومنذ ذلك التاريخ ارتفع الرقم إلى فئات المليارات ديونا داخلية وخارجية. وفى ذلك العصر الملكى، كانت إنجلترا مدينة لمصر بمبلغ 500 مليون جنيه إسترلينى. وتحولت مصر بعد ذلك من دولة دائنة إلى دولة مدينة تتفاقم ديونها عاما بعد عام. ولمن عاش جزءا من هذا العصر أو سمع عنه، فلا بد أنه علم أن مصر استعانت بقوة عاملة من اليونان وإيطاليا ومن معظم جزر البحر المتوسط، وقد تشكلت جاليات رائعة من هذه الجنسيات أسهمت فى زيادة الإنتاج وسدت نقصا فى مجالات كثيرة وفى تدريب عشرات الآلاف من الحرفيين. والسؤال المحير: كيف تمكنت السلطة قبل عام 1952 من تحقيق هذه الإنجازات؟ كيف وفرت فعليا تعليما متميزا؟ وفرصا للعمل للمواطنين ولغيرهم من الأجانب؟ وكيف حافظت على قوة الجنيه؟ وكيف وفرت المساكن لكل طالب سكنا؟ بل إن المعروض من المساكن الحالية كان أكثر من حجم الطلب. وكيف أدارت الاقتصاد وحافظت على وتيرة نمو الناتج القومى بالرغم من حربين عالميتين وبدء الصراع العسكرى المصرى - الإسرائيلى عام 1948؟!. لقد كان الاقتصاد زراعيا وإن كانت هناك صناعة بدأت تشق طريقها خاصة فى مجال صناعة السكر والأسمنت وبعض الصناعات الغذائية وأثناء وبعد معركة 1948 اقتحم أحمد باشا عبود مجال الصناعة الحديثة وأنشأ مصنع سيرفا بعد أن تبينت مصر على ضوء المعركة أنها فى حاجة شديدة إلى مثل هذه الصناعات. هذه المصانع بعد الاستيلاء عليها حملت اسم المصانع الحربية وكانت البداية لتطور وتوسع هذه الصناعة فيما بعد. المهم أننا أبناء هذا الجيل الذى عاش جزءا من العهد الملكى كنا نفكر ونستخدم المنطق كما علمنا أساتذتنا فنستنتج أن المستقبل سيكون أفضل من الحاضر مثلما كان حاضرنا الذى عشناه أفضل من الماضى الذى عاشه جيل الآباء. ولما عشنا عقود العصر الجمهورى كانت حسرتنا واسعة النطاق وعميقة كالأخاديد؛ فالتعليم مثلا بدأ فى الانهيار الذى لم يتوقف أبدا. المهم أن الكل على علم بهذه الحقيقة ولكن أحدا لم يتحرك بجدية وفاعلية وشجاعة لوقف هذا الانهيار. مئات بل الآلاف لا بل عشرات الآلاف من البيانات والتصريحات الصحفية عن خطط وبرامج التطوير ويتوقف الأمر عند هذا الحد. وإذا مات تحدثنا عن النظافة فإن المقارنة يمكن أن تساعدنا جميعا على تبين حجم المشكلة فمن العاصمة الأنظف والأكثر أناقة مقارنة بالعواصم والمدن الأوروبية إلى واحدة من المدن التى تقبع فى القاع فيما يتعلق بمستوى النظافة. ماذا جرى؟!. ولماذا الاستمرار فى حالة العجز الحالية؟!. وهل المشكلة أكبر من قدرة السلطة على الحل مثلها فى ذلك مثل محنة التعليم وأزمة الإسكان وقضية الجنيه المسكين، وقضايا المواصلات والمرور والرياضة والحفاظ على الحريات والمجتمع المدنى. كيف نجحت السلطة حتى عام 1952 فى هذه المجالات التى أشرت إليها؟ وكيف لم تتمكن السلطة على امتداد أكثر من ستة عقود من التغلب على مشاكل التعليم والنظافة والإسكان والجنيه والمرور والمواصلات والرياضة والمجتمع المدنى والحريات. والحديث عما عشناه خلال العصرين الملكى والجمهورى لم ينسنا أن مصر تعيش حاليا أو منذ يوليو 2014 عصرا من الإنجازات الكبرى غير المسبوقة فى مجالات الطاقة والزراعة والطرق وإنشاء وتنمية الموانى البحرية بالإضافة الى ازدواج الممر الملاحى لقناة السويس ومشاريع الاستزراع السمكى وجبل الجلالة وغيرها. وتظل هذه المشاريع العملاقة أحد أهم الإنجازات التى عرفتها مصر، ولكن تظل المشاكل المزمنة مثل التعليم والنظافة وغيرها تبحث عن حل.