أركز اهتمامي هذا الاسبوع في ملف أري بيقين أن دلالته تتجاوز الخبر أو الأخبار المتعلقة به إلي أفق واسع يتعلق بنوعية الثقافة السائدة في هذا البلد, وبمستقبل الحياة فيه, لو أردنا أن يكون لنا مستقبل حقيقي يليق بتصوراتنا عن أنفسنا, وعن وطننا, والتي آن الأوان لتصبح واقعية تتجاوز هلضمات:( المصريين أهمه), والبلد الذي إذا( مال كده الدنيا تميل)!!, وأوجز تعرضي للملف فيما يلي: أهتم بالنشاط الرياضي المحلي والعالمي( متابعة لا ممارسة) باعتبار أن المجهود البدني بكل ما يحوطه من علوم الاعداد وتعظيم القدرة الإنسانية, واختراق حدود الاعجاز البشري هو عمل( ثقافي) من الدرجة الأولي. ومن ذلك المنطلق, ومن ارتباطي بالحالة البريطانية, ودراستي الدقيقة للشأن البريطاني علي امتداد ما يقرب من عقدين, تابعت استعدادات المملكة المتحدة لتنظيم الألعاب الأوليمبية هذا العام.. وبدأت متابعتي للأمر في فبراير5002 حين دعاني السير ديرك بلامبلي سفير المملكة المتحدة في القاهرة آنذاك وقرينته الليدي نادية جوهر, إلي عشاء في دار السفارة البريطانية بقصر الدوبارة بمناسبة زيارة البارونة تيساجويل وزيرة الرياضة والاعلام والثقافة في حكومة حزب العمال, وذلك في اطار جولة بدأتها وقتها لتسويق تنظيم بلدها للأوليمبياد, واطلاق حملة تعضد مساعيه لنيل ذلك الشرف رفيع المقام.. وكان حديث البارونة لي حضاريا محترما يري أن بلدها أحد البلاد المهمة في الكون وليس أهم بلد علي ظهر البسيطة, ويري أن أي مواطن في ذلك البلد يكتسب قيمته وحضوره ووزنه من مواهبه وعلمه, وقدراته, وليس من جنسيته وبطاقة هويته, أو نظرة هذه الجهة الأمنية, أو ذلك المسئول السياسي إليه بوصفه المواطن الأولي بالرعاية, وأن الأداء البريطاني في منافسة الحصول علي شرف تنظيم الألعاب الاوليمبية بالذات هو الذي سيحدد فرصتها في الفوز, وليس أداء بريطانيا بصفة عامة قاريا أو دوليا في الاتحاد الأوروبي, أو تجمع الدول الثماني, ومنظمة التجارة العالمية, كما لا يحدده وزنها التاريخي الذي تدعمه أطياف وثيقة الماجنا كارتا, أو فرسان المائدة المستديرة, أو موجات السفن والطائرات ومئات آلاف الجنود الزاحفين من بورتسموث إلي غزو نورماندي في الهزيع الأخير من الحرب العالمية الثانية.ثم كان فوز بريطانيا بالتنظيم, ورأيتم معي الافتتاح المبهر المبدع للدورة, الذي لم يركز كما نفعل علي أحمس وعجلاته الحربية, وانجازنا في ميادين القتال, ولكنه أبرز علي نحو بديع النضالات اليومية للبريطانيين وإسهامهم في بناء الحضارة الإنسانية منذ الثورة الصناعية وحتي اليوم, محتفلا بفكر( الاعتبارات) لا( التفضيلات), متوحدا مع ثقافة( بالضبط), مخاصما ثقافة( تقريبا)!. كنا نري مشدوهين ذلك الابداع البريطاني الذي استخدم كل شيء في البلد من الملكة اليزابيث الثانية إلي العميل السري لجهاز مخابرات(MI6) جيمس بوند, إلي حتي الخدمات الصحية الوطنية(NHS), وأوركسترا لندن الفيلهارموني.. كان العمل ومراكمة الانجاز وسيمفونية الكفاح اليومي من أجل الحياة هي ما يحتفل به أولئك الناس في بلدهم العظيم, والذي نجح في الحصول علي عدد كبير جدا من الميداليات قياسا إلي وضعه المتواضع في الدورات السابقة.. أما نحن أصحاب حضارة( التبويق) و( الهلضمة) وثقافة( المصريين أهمه) فقد كان اسهامنا في الأوليمبياد مذهل السقوط, ولا أعني هنا نتائج أبطالنا( وتلك مسألة أخري سيكون لي فيها مقالات تخاطب مسئولي الشباب والرياضة الجدد في مصر).. ولكن ما قصدته هو السلوك الأخلاقي المنحط والفضائحي الذي أحاط بعثتنا الأوليمبية في تلك الدورة, والتي إن رفع فيها أبو القاسم بطل الشيش, وكرم جابر بطل المصارعة الرومانية علمنا في تتويج فضي لمرتين, فإن اللجنة المصرية الأوليمبية مرمغت بسمعتنا الأرض لمرات, ومن ثم فإن تكريم الدكتور رئيس الجمهورية كما فهمناه هو للبطلين وليس لمسئولي البعثة أو اللجنة الاوليمبية. ولن أفيض بالطبع في الحديث عن كارثة الألبسة والأمتعة الرياضية المقلدة( غير الأصلية ماركة نايكي) التي وزعتها اللجنة الأوليمبية علي أبطالنا, والتي إن كانت كما يحاول البعض القول مشكلة بين الموزع والوكيل ليس لنا دخل بها, وإن حسمها تدخل وزير السياحة السابق بدفع مبلغ ضخم علي وجه السرعة وشراء ملابس أصلية لبعثتنا, فإنها في نهاية النهار تعكس تفكيرا يتسم بالبلاهة واللكلكة الإدارية والسياسية, وانعدام الثقافة الدولية, إذ عمدت اللجنة الاوليمبية إلي شراء أطقم ملابس من مورد صيني بسبب ارتفاع أسعار الملابس, مما يتعارض مع الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر.. يا حلاوة! يعني مصر عرضت نفسها لحصار هيئاتها الحكومية والرياضية بسبب اختراقها( معاهدة الملكية الفكرية), لأن مسئولا ما( يستحق المحاكمة) رأي أنه يريد أن يوفر, ويدبر, ويحتفظ بالقرش الأبيض لينفعه في اليوم الأسود, ولم يفكر ذلك المسئول في حجم ما دفعه البلد لإعداد وتسفير البعثة الاوليمبية الضخمة الفاشلة, ومسئولي الاتحادات واللجنة الاوليمبية, والمدربين( الذين كان يمكن اختصارهم لنصف العدد لو أردنا التوفير), من الذي قال لذلك العبقري اننا نريد التوفير؟, وإلام توصلت لجنة المجلس القومي للرياضة للتفتيش, ومعها مندوب جهاز الرقابة الادارية الذين طالبوا اللجنة بتسليم أصول الأوراق والمستندات الخاصة بالزي وطريقة اختياره.. هذا ليس أمرا رياضيا, ولكنه كارثة أخلاقية قومية نريد بالفعل. أن نري محاسبة قانونية للمسئولين عنها.. ثم ولكي تكتمل المعاني فإن فضيحة عجيبة أخري تفجرت وذاعت شهرتها في الآفاق, وهي اقتحام والسطو علي مقر البعثة المصرية للبارا أوليمبياد( للمعاقين) قبل سفرها إلي لندن, وسرقة مئات الآلاف من العملات المحلية والأجنبية, بالاضافة إلي كل محتويات مقر البعثة الأوليمبية, وهو الذي اتهمت فيه التحقيقات الأولية بعض لاعبي البعثة, وإذا صح الاتهام ونحن نتكلم عن أمر مازال قيد التحقيق فإننا بصدد كارثة أخري, إذ ما قيمة أن نعد أبطالا رياضيين نخوض بهم غمار منافسات كونية, وبنيانهم الأخلاقي بتلك الهشاشة والتواضع والانحطاط؟.. الأهم هو تربية الناس, وليس الفوز في المسابقات الرياضية, وربما تنسي الدوائر الدولية قوائم الميداليات التي حصل عليها هذا الفريق أو ذاك, ولكنها ستتذكر أن بلدا أرسل بعثة زورت حقوق الملكية الفكرية, وأن بعض لاعبيها دهموا خزائن البعثة مثل اللصوص المحترفين.. وكذلك فإن واحدة من الفضائح المصرية التي زكمت الأنوف كانت استبعاد اللاعبين صالح عمارة وعبده عمر من بطولة المصارعة في الدورة لأنهما تأخرا علي موعد المباريات, وأخبرتهما إدارة البعثة أن توقيت المنازلة هو الواحدة ظهرا بدلا من الثامنة والنصف صباحا!!. ولن أتحدث بالبطع عن واقعة الشيشة المروعة التي اصطحبها أحد الاداريين معه, وضبطتها سلطات الفندق الذي أقام فيه بعد انبعاثات الأدخنة من غرفته, وإن نفت إدارة البعثة المصرية الواقعة, فإن الاعلام البريطاني أجمع عليها, وجدتني أصدق الاعلام البريطاني, إذ ليس لديه سبب بالقطع لتقصد البعثة المصرية, أو ترصد ذلك الإداري بالذات, ثم إن تأليف واختراع واقعة( الشيشة) بالذات صعب علي الخيال البريطاني, وأخيرا فإن( اجماع) وسائل الاعلام البريطانية ذات السمعة المهنية المعتبرة في ذاته دليل صدقية, إذ لم تخرج وسيلة اعلام بريطانية واحدة تكذب الواقعة. نحن بصدد كارثة قومية أساسها( أخلاقي) له تجلياته السياسية, إذ ليس هذا بيقين هو الوجه الذي تقدمه مصر لنفسها بعد يناير..1102 فهل اندلعت في مصر أحداث بتلك القوة لكي يكون نتاجها أن تصبح السفالة ظاهرة قومية؟!.. إن اقترابات أخلاقية مطلوبة علي نحو عاجل لتصبح أساس عمل الاتحادات والأندية, ومراكز الشباب لنحاصر أولئك الذين يدعون تمثيل مصر, وهم يمثلون بها!!. المزيد من مقالات د. عمرو عبد السميع