يرصد علم الوجود التفاعلات بين العالم كما هو، والعلاقات بين المفاهيم والأفكار المتعلقة بهذا العالم، وأيضًا الشروط العامة للوجود، وطبيعة العلاقات بين المجتمعات والطبيعة، والمياه تعد شرطًا أساسيًا للوجود الإنسانى وغيره من الكائنات، لكن فى سياق التحولات التاريخية تعرض المورد المائى للنضوب، وأصبح يشكل التهديد الأعظم للعالم، ولأن الوجود الإنسانى يتحقق تعبيرًا عن تحرر شامل للإنسان من ضغط الحاجة، سواء جاء تقنينها من الطبيعة أو المجتمع؛ لذا تبدت الصراعات على الماء بين صراعات شخصية حادة، وصراعات جغرافية سياسية. ولا شك أن إعادة استحضار بعض هذه الصراعات العالمية التى تجرى داخل المجتمعات، تكشف عن السلوكيات التى تخلخل الأنظمة، بتوريط مجتمعاتها فى سلوكيات مضادة لأنظمتها، حيث فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وفى الوسط الغربى منها، دفعت أزمة الماء مجتمعات وصناعات، موجودة على طول نهر «كولورادو» إلى أن يقاتل بعضهم بعضًا على كميات الماء المتضائلة، وقد أفادت صحيفة «نيويورك تايمز» أن الانفعالات تزايدت بين المتنافسين على استخدام الماء، وشنت بعض الولايات حروبًا. وأقامت ولاية «مونتانا» دعوى قضائية ضد ولاية «وايومنج» لحصولها على حصة ماء أكثر من حصتها، كما أن النمو السكانى لكل من ولايتى «نيفادا» و «يوتا» تسبب فى خلاف شديد بشأن عدد خطوط الأنابيب المقترحة لكل منهما، وفى الصين ثمة تصاعد للغضب بسبب الانتصار بالمعرفة على الطبيعة، وذلك بسرقة الأمطار عن طريق الاستمطار، ونشرت صحيفة «تشاينيز ديلي» أن خمس مدن جافة، فى تنافس محموم لاستمطار الغيوم قبل مغادرتها، وفى جزيرة «جاوا» الإندونيسية التى لا يسمح محيطها الطبيعى بوفرة الماء، يأتى المزارعون إلى حقولهم لرى محاصيلهم، مسلحين بفؤوسهم ومطارقهم ليقاتل بعضهم بعضًا من أجل المياه المتضائلة. صحيح أن الندرة أو النقص فى المياه لدى الدول يوازيه خطورة التحدي؛ فعندما تتمثل الدول هذا التحدى فإنها تحوله إلى طاقة لقواها التسلطية، حيث تتوالد الصراعات حول كيفية ملكية هذه المياه واستخدامها، وقد طرحت صحيفة «الاندبندنت» البريطانية أمثلة لمناطق نزاعات متعددة لدول حول المياه، تضمنت إسرائيل، والأردن، وفلسطين، التى تعتمد على مياه نهر الأردن، الذى تتحكم به إسرائيل، وتركيا، وسوريا، وقد راحت تركيا تخطط لبناء السدود على نهر الفرات، مما أدى إلى وضع البلدين على شفا الحرب عام 1998، كما اتهمت سورياتركيا بعد ذلك بالعبث المتعمد بحقها المائي، ولأن المياه تؤسس لمعناها ودلالتها؛ لذا أنتجت القطيعة، والتجاوز، والتقلبات السياسية، والخلافات بين الدول، حيث تسبب نهر «براهبيتنورا» فى التوتر بين الهندوالصين، وكذلك اشتعلت الخلافات بين «أنجولا» و «بوتسوانا» و«ناميبيا» حول حوض مياه «أوكافانغو»، وأيضًا الخلاف بين «إثيوبيا» و«مصر» حول مياه نهر النيل، وكذلك النزاع بين «بنجلاديش» و«الهند» نتيجة فيضان نهر «الغانج» الذى يلحق الأذى بمواطنى «بنجلادش»، فيضطرون إلى الهجرة غير الشرعية إلى الهند؛ وهو ما ترفضه الهند، وثمة ضغوط ومخاوف على طول الحدود «الأمريكية» و«الكندية» بخصوص المياه الحدودية المشتركة، ومستقبل البحيرات، حيث أنشأت الولاياتالمتحدة أربعًا وثلاثين منطقة دائمة للتدريب بالذخيرة الحية على طول البحيرات، بالإضافة إلى قيام خفر السواحل الأمريكية بأعمالهم مستخدمين مدافع سفنهم الحربية؛ بل مارست أكبر صيغة للانقسام يمكن أن تسيطر على كيان سياسي، وذلك بتفكيكها لثنائية المشاركة، بإعلانها الفصل الحاسم لسلطتها المنفردة على المياه المشتركة، إنكارًا وإبطالاً للمعنى المدرك والراسخ تاريخيًا، وتكرر النهج نفسه بنكران الولاياتالمتحدة تاريخ شراكة حدودها مع المكسيك، وذلك باعتراضها - رغم الممارسة الطويلة الأمد- على المزارعين المكسيكيين بتحويل المياه من نهر «ريو جر اندي»، الذى يشكل على امتداد مساره جزءًا من شراكة الحدود بين المكسيكوالولاياتالمتحدة. صحيح أن الماء أصبح مسألة أمنية استراتيجية أساسية ذات أولوية عالميًا، وصحيح أيضًا أنه بقدر ما يحكم العقل والواقع معًا هذه الاستراتيجية، فإن الصحيح كذلك أن الأمر لا يتم إلا عندما تنضج الظروف الموضوعية مجتمعيًا، والإعداد لمواجهة التحديات؛ لذلك ففى فعقب الهجمات الإرهابية فى الحادى عشر من سبتمبر، أنشأت الولاياتالمتحدة وزارة الأمن الوطنى عام 2002، التى تحملت مسئولية أمن بنية المياه التحتية للدولة، ثم أنشأت وكالة حماية البيئة مركز البحوث الأمنية الوطنية، وأسست قسم أمن المياه لتدريب موظفى مرافق المياه على القضايا الأمنية، فى حين نشرت صحيفة الأهرام بتاريخ 14/ 12 /1998 رصدًا عن مؤتمر (المياه... قضية القرن القادم) الذى أقيم فى مصر، وطرحت الصحيفة أهم أفكاره وسياساته، ومنها «ضرورة التفكير فى تعديل التركيب المحصولى فى أراضى الدلتا، والتقليل من زراعات المحاصيل التى تستهلك مياهًا كثيرة»، وذلك ما يتفق مع قرار مجلس النواب الصادر فى أبريل عام 2018 الذى ينص على «حظر زراعة محاصيل معينة من الحاصلات الزراعية فى مناطق محددة، والتى قد تكون شرهة للمياه حفاظًا على المياه وترشيدها»، وأيضًا فى نفس عدد صحيفة الأهرام بتاريخ 14 / 4 / 1998، تم طرح سبع مشكلات تواجه صانعى القرار، وقد نصت المشكلة الرابعة على «نقص التوعية، أى عدم وجود توعية على المستوى الجماهيرى وصانعى القرار، ينتج عنها ممارسات خاطئة، كما أن المواطن العادى لا يشارك فى تحقيق وحل الأزمة بطريقة فعالة»، لكن الصحيح أنه لكى يوجد المواطن لا بد من رسم الحقوق والمعايير، وألا يغيب المواطن عن صناعة القرار فى حياته وحياة مجتمعه، وأن تختفى كل المعارك التى تضع الفردى ضد الاجتماعي، والماضى ضد الحاضر، وأن يتحمل المواطن عبء المرحلة التى يسهم فى صنع أحداثها، وذلك ما يعنى التواصل بين المسئولين والمواطنين، إن المزارعين المصريين يرتبطون دائمًا بالمعهود، ورحلة التصحيح لا بد لها من تجاوز ذلك المعهود، بالمعرفة التى تتأتى بالحوار والنقاش، إذ ما يغير العالم وحدة الإنسان مع الطبيعة ومع الحياة، فى مواجهة جنون الإنتاج الكمى وانفلاته الوحشي، استهلاكًا لكل ما فى الأرض والهواء، ولأن الديمقراطية ممارسة وسلوك، وهى أيضًا نمو للفرد فى إطاره الاجتماعي؛ لذا فإن الحوار مع المزارعين يدفعهم من الظلال إلى استرداد وجودهم الإيجابى حوارًا ونقاشًا. لمزيد من مقالات ◀ د. فوزى فهمى