فلنهدأ قليلاً. لا ينبغي أن نتعامل مع مجريات التفاعل بين دول حوض النيل.. كما لو أننا سوف نحسم الخلاف مع الأشقاء بعد خمسين يومًا.. ذلك أننا، عمليًا واستراتيجيًا، مقبلون علي ملف سيكون عمره خمسين عاما علي الأقل. بالتأكيد، هذه قضية في منتهي الحساسية، ولها أبعاد تاريخية وثقافية، وبالتأكيد هناك إدارة واعية من الدولة للموقف.. بكل بدائله منذ اليوم الأول للمسألة.. ولكن اللغة اللاهثة في تغطيات كثير من الصحف، وتعليقات التقارير، تثير الدهشة، وتكشف عن قدر كبير من التسرع، إلي درجة أن إحدي الصحف قد قالت إن مصر تتحرك بطريقة (محمومة).. بعيد توقيع أربع دول من حوض النيل علي اتفاق منقوص.. وغير شرعي.. في خطوة تمثل تحديًا لا شك في ذلك.. ولكنها ليست مؤثرة علي المستوي الاستراتيجي.. حتي لو كانت تمثل (تسجيل موقف) علي ورق.. فقيمته محدودة.. ولا يمكنه أن يوقف سريان الماء في النيل. ويمكن أن نتفهم طبيعة المعالجات الإعلامية المتوترة في ضوء أن موضوع المياه حساس للغاية، ولأنه لايجوز من وجهة نظر «الأمن القومي» كشف كل الأوراق وإعلان كل ما يدور، ولكن، وعلي الرغم من تلك الطريقة في المعالجات، إلا أن هذا الذي يجري إعلاميًا له أكثر من وجه إيجابي مفيد.. فهو علي الأقل سوف يحقق التالي داخليًا: - يعطي للمواطنين إحساسًا بأهمية الانتباه في ترشيد استخدامات المياه.. خاصة في تلك الزراعات التي تفرض الحكومة قيودًا عليها وتواجه مقاومة من المزارعين.. الأرز تحديدًا.. كمثال مهم.. ثم القصب. إن ما ينبغي علينا أن نعتبره خصما في هذه المسألة هو معدلات الاستهلاك المصرية لكميات المياه المتاحة لنا.. فهي نفس الكمية التي كانت متاحة منذ كان تعداد سكان مصر ربع العدد الحالي.. ومنذ كانت محطات تنقية المياه تنتج يوميا 12 مليون متر مكعب.. وهي تنتج اليوم 26مليون متر مكعب.. ومنذ كانت مساحة الأرض المنزرعة 5 ملايين فدان وصلت الآن إلي 8 ملايين فدان. - ينبه هذا الموقف الرأي العام إلي طبيعة التحديات التي تواجهها مصر في مختلف المجالات.. وفي ملفات غير متوقعة.. بحيث ندرك أن علينا أن نتفرغ إلي ما هو أخطر بكثير من الصخب الداخلي غير المجدي في أحيان كثيرة. - يفرض علي كثير من متصدري الأحداث من المحتجين والمعارضين.. أن يعرضوا أمام الناس وجهات نظر ورؤي لعلاج مثل تلك المشكلات المصيرية.. بدلاً من أن يواصلوا اللغو الفارغ.. ورفع الشعارات الخاوية.. إن عليهم أن يعلنوا بدائلهم.. وأن يقترحوا السياسات.. فالناس لا تشرب كلامًا.. والزرع لا ترويه البرامج. - يمنحنا هذا فرصة كبيرة لكي تترسخ ثقافة إطلاع وتنوير الرأي العام علي محيطه الأهم.. إفريقيًا ونيليًا.. فقبل أن نتوتر علينا أن نعرف.. وقبل أن نخاف علينا أن نفهم.. إنني أخشي أن يكون كثير من المعلقين علي أزمة التفاوض مع دول حوض النيل لا يعرفون علي وجه اليقين كم عدد وأسماء دول الحوض.. وربما لم يطالعوا خريطة للنهر ومنابعه ومصادره منذ ولدوا. - فلنعرفهم أولاً إن كثيرًا من المعالجات تصور الأمر، حتي لو لم تكتب هذا، كما لو أن دول المنابع ليس منبعًا واحدًا تملك هويسًا.. يمكن إغلاقه بليل أو نهار.. فلا ترد المياه إلي مصر غدًا.. وتحتجز هناك.. ومن ثم تتقيد مصائرنا وتتعلق حياتنا بقرار سوف يتخذ في نيروبي (عاصمة كينيا) أو كمبالا (عاصمة أوغندا)، أو في تنزانيا ورواندا وبوروندي والكونغو.. وقبل هذه جميعًا إثيوبيا.. وعواصمها بالترتيب لمن قد لا يعرف دار السلام، كيجالي، بوجمبورا، كينشاسا.. وأديس أبابا. ليس في ذكر تلك المعلومات قصد التعالي أو التزيد.. ولكن الهدف هو أن أشير إلي أننا نفتقد المعرفة العامة بتلك الدول.. وهي معرفة الاحتياج إليها صار حيويًا.. علي الأقل لدي النخبة التي تدير نقاشات الرأي العام وتقوده إلي اتخاذ موقف.. هلعا أو خوفًا أو توترًا.. أو وهذا ما لا يحدث غالبًا اطمئنانا. إن الإنسان عدو ما يجهل، ولا بد أن نعرف قبل أن تنبت في صدورنا مشاعر عدائية أو حتي خصومة مع الأشقاء الذين اتخذوا مواقف انفرادية منقوصة ولن تكتمل وليست لها صفة قانونية، وليس لها تأثير، حين وقعوا علي ما وقعوا عليه قبل أيام.. ومن الواجب أن نتفهم الدوافع والمبررات التي قادت رفاق الحوض إلي هذا التصرف.. حتي لو كنا نرفضها.. وأن تنبني الاستراتيجية المصرية علي أن هذا يشجع مزيدًا من التواصل والاحتواء.. فإذا ما كان الأشقاء في أعالي النيل يعلنون الانفراد.. فإننا نعلن التلاقي.. ومصر ستزيد من تقاربها وتعاونها وتصر علي التواصل ولن تترك دول المنابع للآخرين. هناك مؤامرات لا شك في ذلك، وهناك خطط مريبة، وهناك تحركات خطرة، من الأقاليم المحيطة، ومن القوي العالمية البعيدة.. التي فجأة وضعت نفسها في مسار مصالحنا.. ولابد أنها سوف تنتبه إلي جريرة ما تفعل.. وأنها لا ينبغي أن تغضب مصر.. أو إجمالاً شعب مصر.. خاصة إذا كانت تلك القوي نفسها تخوض غمار خلافات عميقة علي أنهار في أراضيها ومع جيرانها. إن الأصابع تشير إلي إسرائيل دائمًا، وبشكل مباشر، هذا لا جديد فيه، ولا شك فيه كذلك، وإذا كان وزير الخارجية قد قال قبل أيام في حوار مع الزميل محمد علي إبراهيم رئيس تحرير الجمهورية (النيل خط أحمر)، فإن العبث الإسرائيلي.. الموازي لعبث القوي العالمية البعيدة.. يشير إلي أن مصر قد رفضت مرارًا المقترحات الإسرائيلية بأن تصلها مياه النيل عبر سيناء.. ولعل في هذا الذي يحدث الآن ردًا علي المتساخفين الذين يتحدثون عن أن مصر تقوم بترضيات مختلفة لإسرائيل.. أو أنها تواكب سياستها.. وها هي الوقائع التي لم نكن في حاجة إليها تثبت الحقيقة. - حبس النيل عمليًا، لا يمكن احتجاز النيل، هذه حقيقة جغرافية لابد أن نؤكد عليها للقارئ.. الذي قد لا ينتبه إلي أن الأشقاء عند المنابع هي (دول أعالي النيل).. فالأنهار تجري من أرض علوية إلي أرض منخفضة.. طبيعة المياه بقانون الجاذبية أنها يجب أن تتجه إلي المصب.. ولكي لا يحدث ذلك فلابد من إقامة سدود هائلة بتكاليف باهظة جدًا.. تستغرق سنوات طويلة.. تحتاج تمويلاً لا يمكن أن يتاح إلا من خلال مؤسسات دولية ضخمة، تلك المؤسسات لن تقدم تمويلا إلا باتفاق جميع الأطراف علي طريقة استغلال المياه. والواقع يقول إن الأشقاء في دول المنابع ليسوا في حاجة إلي ال55.5 مليار متر مكعب التي تحصل عليها مصر بموجب اتفاق تاريخي ثابت.. تحرر في عام 1929.. ذلك أن المتوافر من المياه لديهم يتجاوز 1500 مليار متر مكعب سنويا.. مصدرها الأمطار.. تهدر للأسف.. بسبب ضعف الإمكانية.. وعدم القدرة علي الاستفادة الحقيقية من هذه الثروة الطائلة.. بل إن مصر تقدم معونات فنية ومالية لحفر آبار في تلك الدول الشقيقة.. وهذا كلام له مدلولات مختلفة. والواقع يقول: إن الأشقاء عند المنابع بينهم خلافات عميقة.. خصوصا علي بحيرة فيكتوريا بين كل من كينيا وأوغندا وتنزانيا.. وهو ما له تأثيرات علي مستوي المياه في البحيرة.. وحركة الملاحة.. ومحطات التنقية.. فضلاً عن خلافات الصيد المتفاقمة.. ناهيك عن خلافات الرعي بين القبائل التي تتحرك حسب الأمطار.. ولا شك أن الجميع يعرف طبيعة الصراعات العرقية في رواندا وبوروندي.. وما حول ذلك.. وفي الذاكرة القريبة رائحة جثث مئات الألوف من القتلي والمذبوحين في تصفيات كادت تفني الشعوب.. ولم تزل تترك بين الجميع تراث ثأر لا تبليه السنون. ويدرك الجميع أن حجم الخلافات العقيمة بين دول المنابع هي التي كانت تعوق تحفيز الدول المانحة عن أن تقدم علي تمويل مشروعات جلب الأمطار المهدرة.. مهدرة بحيث لا يستفيد الجميع إلا ب5% من المفترض أن يحتويه النيل من إيراد سنوي.. ومن هنا تدخلت مصر لاقتراح المبادرة التي ترسخ أن يقود البنك الدولي مجموعة من الدول لتمويل عملية تنموية واسعة النطاق.. تؤدي إلي الاستفادة من مياه النيل.. علي أساس المنفعة للجميع.. وهو ما انقلبت عليه الدول الأربع التي وقعت اتفاقا غير قانوني ومنقوصًا.. سرعان ما رأت فيه الدول المانحة ما لا يتوافق مع المطلوب وهو أن تتفق جميع دول النهر في المنابع والمصب. - (المستعمر) المصري وتنتشر بين النخب الأفريقية في دول الأشقاء مفاهيم غريبة بخصوص اتفاقيات المياه التاريخية.. ويستخدم الأشقاء تعبيرات ليس لها مبرر.. من نوع أن هذه اتفاقيات خبيثة.. أو أنها اتفاقيات استعمارية.. أو أنها ظالمة تاريخيًا.. مفاهيم تفرق ولا تجمع.. وتصل في بعض الأحيان إلي وصف (المصري) بتعبيرات استعمارية.. وأنه يحصل علي نصيب الأسد.. وأنه جائر.. وأشياء كثيرة من هذا النوع الذي يوظف سياسيًا في إطار مجموعة من المعارك الانتخابية التي تدور وستدور في هذه الدول الشقيقة خلال الفترة المقبلة.. وتبدو ملفات المياه مناسبة لكي تكون ساحة للمزايدات الداخلية. لقد طالعت في الأسابيع الأخيرة عددًا من التعليقات ومقالات الرأي في صحف دول حوض النيل.. ومن المدهش أنها تردد كلامًا ومصطلحات واحدة.. ومعاني لا تختلف في كل المقالات علي اختلاف الصحف والدول.. وأهم معني يتردد ويتكرر هو أن هناك رغبة لدي البعض في أن يبيعوا الماء وأن يعامل معاملة البترول في دول الخليج العربي.. علي أساس أن مصدر النيل ومنابعه في الدول الأفريقية الشقيقة وأن علي مصر إن أرادت أن تشتريه.. والمعني الذي يفهم من ذلك أيضًا هو أنه يمكن أن يباع لغير مصر. وهذا كلام ضد الجغرافيا وضد الاتفاقيات وضد القانون.. ومن الضروري أن نذكر بأن هناك قواعد محددة تحكم تفكير القانون الدولي في طرق توزيع المياه بين الدول المتشاركة في نهر واحد.. هذه القواعد هي كما يلي: - تعداد السكان. - طبوغرافية حوض النهر. - الظروف المناخية. - كمية المياه المعتاد استخدامها من ماء النهر. - الاحتياجات الفعلية من المياه لكل دولة. - توافر أو انعدام وجود مصادر بديلة للمياه. ومن المعروف في هذا السياق أن أكثر من 50% من دول العالم تتلقي مياهًا عبر أنهار موجودة خارج أراضيها.. ومن المعروف أيضًا أن هذا الخلاف بين أشقاء دول حوض النيل ليس هو الوحيد، ففي مختلف أنحاء العالم هناك خلافات أعمق وأشد حدة بين مجموعات من الدول علي مياه الأنهار.. ومنها مثلاً ما يلي: - ما يعرف بنهر الخلافات بين الصين وعدد من جيرانها (نهر فيموكونج). - مجموعة خلافات المياه. خصوصا تلك المتعلقة بإقامة سدود في مناطق التبت.. وتأثير ذلك علي العلاقات بين الصين والهند. - الخلاف علي طريقة استغلال شط العرب بين العراق وإيران. - الخلافات حول نهري دجلة والفرات.. بين سوريا والعراق وتركيا. - خلافات الهند وباكستان حول نهر الأندوس. - خلافات الهند وبنجلاديش حول نهر الجانج. - خلافات أوزبكستان وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان حول نهر الموادريا ونهر سيرداريا. - المجر وسلوفيكيا والصرب وكرواتيا حول نهر الدانوب. وبالإجمال فإن هناك عشرات من هذه الملفات الساخنة والملتهبة في كافة أنحاء العالم.. التي تخضع لتعارض في الرؤي.. لم يصل الخلاف حول النيل إلي درجة عمقها.. كما أنه لا يوجد أي من تلك الدول يتحدث عن اتفاقيات استعمارية أو كلمات مماثلة.. مع الوضع في الاعتبار أن حدود دول حوض النيل الشقيقة هي من نتاج اتفاقيات عصر الاستعمار.. ولا نعتقد أن الدول الشقيقة سوف تتخلي عن حدودها لأنها قد رسمت في عصر تشعر بالكراهية تجاهه. - حفظ ماء الوجه إن الهلع الذي أصاب الرأي العام بسبب هذه الأخبار متفهم.. والخوف الذي انتاب فئات كثيرة من الناس له ما يبرره.. ولكنه يجب أن يتحول إلي طاقة مفيدة.. تؤمن بأن الدولة تسيطر علي مجريات الأمور.. وأنها تدير الموقف بطريقة رصينة تحافظ علي المصالح المصرية.. وتري أنه مهما بلغت حدة الخلاف مع الأشقاء الأفارقة فإننا لن نترك الساحة للآخرين خاوية.. بل إن هذا سوف يدفع مصر إلي مزيد من التعاون والاقتراب مع دول حوض النيل.. التي يوجد لنا معها ارتباط مصيري. وأخيرا، وإذا كان من طبيعة مؤسسات الدول الكبري أن تضع كل الاحتمالات علي المائدة.. وأن تدرس كل السيناريوهات.. فإن علينا الانتباه إلي أن ثقل مصر له وزن مهيب في إدارة الملف.. وسوف يدرك الجميع الآن فائدة قوة علاقات مصر مع الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين في التعامل مع الأمر.. وهو استثمار طويل الأمد نقطف الآن بعض ثماره. لقد تسر ع عدد من الدول الشقيقة في حوض النيل بتوقيع هذا الاتفاق.. وهي تعرف أنه لا تأثير له ولا يمكن تنفيذه.. ومن الواجب أن يتساعد الجميع للوصول إلي صيغة تحفظ ماء وجه الدول الشقيقة وتتجاوز تسرعها. اقرأ تفاصيل وتغطيات أخري ص شئون مصرية