تتوقف به السيارة الفارهة السوداء (التى لم يدفع من ثمنها أو تكلفة استخدامها قرشا واحدا) أمام المبنى الزجاجى الضخم، تلكأ فى النزول منها حتى يهرع السائق من خلف مقود السيارة والدوران حولها هرولة ليفتح له الباب، فينزل من السيارة متباطئا، ويصعد درجات السلم القليلة متأففا، مشيحا بوجهه الجامد عن كل الاتجاهات، محتفظا بتعبير يمزج فيه الغضب بالاشمئناط دون مبرر واضح سوى أن هذا من لوازم العظمة والأهمية، تساءل فى نفسه : لماذا لا يصل المصعد إلى باب السيارة؟. ماذا لو رآنى بعض المرؤوسين وأنا أصعد درجات السلم اللعينة على قدمي؟ فى نهاية السلم رجل مفتول العضلات يجلس طيلة اليوم على كرسى بجانب المدخل دون عمل محدد، و يرسم على وجهه سمت العظماء مرتديا بدلة رخيصة الثمن و ربطة عنق رديئة الذوق، وحين يلقى عليه أحد الداخلين أو الخارجين السلام يرد بهمهمة غير واضحة، تعبيرا عن تأففه من إجتراء البعض على التوجه إليه بالحديث، حتى لو كان إلقاء السلام!. فقط فى أول النهار، وحين يوشك ذلك القادم من السيارة السوداء على الانتهاء من صعود آخر درجات السلم المعدودة، ينتفض ذلك العملاق واقفا ويتجه بخطى متسارعة نحو أقرب مصعد مع الحرص على أن يكون تحركه بوضع جانبى حتى لا يقع فى محظور أن يولى ظهره لسيده،مشيرا بيديه بعصبية لكل من يلقاه فى الطريق إلى المصعد بأن يفسح الطريق للقادم الكبير، و ما أن ينفتح باب المصعد حتى يتصدر مفتول العضلات مدخله ليحول دون دخول أحد إليه غير سيده الذى يفسح له مساحة تسمح بدخوله وحده إلى المصعد إذ لا يليق أن يشاركه أحد المصعد!. ينفتح المصعد فى طابق «الإدارة العليا»، فيهب رجل الأمن وعامل البوفيه وعامل النظافة، ويقف كل الموجودين، و يخفون سجائرهم وراء ظهورهم، ويثنى كل منهم ركبتيه قليلا حتى ينفى عن نفسه شبهة الوقوف منتصب القامة فى حضرة السيد الكبير، وينغلق باب المصعد الخالى دون أن يخرج منه أحد فيتبادلون نظرات الخجل ويعودون إلى الجلوس، ثم ينفتح مصعد آخر فيعاودون القيام ليخرج السيد من المصعد متجها إلى مكتبه دون أن يراهم أو يدرك وجودهم. ويندفع ساعى المكتب ليفتح له باب المكتب، ليجد مديرة مكتبه بالداخل قد انتهت من تشغيل جهاز التكييف ورش المعطر، وتشغيل شاشة التلفاز المعلقة على الحائط وكتم صوته!. يخلع الجاكيت و يناولها إياه بطرف خنصره دون أن ينظر إليها لتتناوله منه بسرعة وتعلقه على حامل خشبى فى ركن. - صباح الخير يافندم . - ما تدخليش حد دلوقت وشوفيلى الجرايد . - تحت أمر حضرتك . تخرج وتغلق الباب خلفها، يجلس على الكرسى الوثير خلف المكتب، شابكا أصابع يديه خلف رأسه، راجعا بظهر الكرسى إلى الخلف، ليتأرجح به الكرسى للخلف والأمام، يتجول ببصره فى الغرفة مترامية الأطراف، مكتب شديد الاتساع، كرسى يتجاوز ظهره رأسه بقليل، وحدة جانبية موضوع عليها عدد من أجهزة التليفون وفاكس وطابعة موصولة لاسلكيا بالكمبيوتر المحمول الموضوع على المكتب، ولا تستخدم أبدا! ولوحات زيتية معلقة على الحوائط الخشبية، ومنضدة اجتماعات كبيرة موضوعة فى أقصى أركان الحجرة وكنبة وكرسيين وثيرين وبينهم طاولة تتوسطها علبة من الكريستال مملوءة بنوع فاخر من الشوكولاته وحولها عدد من المجلات الأجنبية الشهيرة . أمام المكتب مباشرة كرسيين فاخرين، وبينهما طاولة عليها علبة من السيجار الفاخر، ومطفأة كريستال، وعلى الحائط خلفه برواز يحيط بصورته شخصيا مع مسئول كبير، أهم ما يميزها الابتسامة العريضة على وجه سيادته، وانحناءة ظهره الخفيفة فى حضرة المسئول، و الابتسامة والانحناءة هاتين لم يتح لأى من مرؤوسيه رؤية أى أثر لهما من سيادته فى الواقع! يدير «سيادته» بصره فى المكان، ويهز رأسه راضيا، وفجأة يعترى وجهه تعبير ينم عن ألم، ويسرع إلى حمام مكتبه، ويغلق الباب خلفه، يفك حزام البنطلون والأزرار والسوستة، وينزل البنطلون، ويجلس على قاعدة المرحاض، وتتقلص ملامحه، ثم يكسوها ارتياح، وتنبعث رائحة كريهة فى جنبات الحمام، يمد إحدى يديه خلف المرحاض باحثا عن مقبض ما، ويندفع الماء، ويستخدم مناديلا ورقية، ويقوم من جلسته، و يعاود رفع البنطلون، و يعيد قفل الأزرار و السوستة وربط الحزام، ويخرج دون أن يغسل يديه، ويجلس على كرسيه العالى خلف المكتب الكبير، يضغط زرا تحت قدمه، فتسرع إليه مديرة المكتب. . -اللجنة جت؟ - موجودين بره كلهم فى انتظار سعادتك. - دخليهم وابعتى الساعى.