إن المجتمعات العاجزة عن تنمية الديمقراطية الفردية والجماعية بين مواطنيها، وحرمانهم التواصل مع مجتمعات أخري، تعد مجتمعات تعانى عطبًا ينخرها من داخل تلك القوة المسيطرة؛ إذ كل تواصل لمجتمع مع غيره هو أشبه ببوصلة للانفتاح على الاقتدار الإنساني، الذى يحقق العدالة والحرية، ويعنى كذلك القطيعة مع الاستمرار تحت قبة الاستبداد المفروض. وقد أورد الفيلسوف اليونانى أفلاطون تصورًا لتلك المجتمعات فى تماثلها مع «أسطورة الكهف» التى تستهدف الانفتاح الحتمى على الشرط الإنساني، بتحقيق التواصل بوصفه اهتمامًا معرفيًا تشاركيًا بين مختلف المجتمعات الإنسانية؛ إذ تصور «أسطورة الكهف» جماعة من البشر محبوسين منذ نعومة أظفارهم فى كهف تحت الأرض، وهم مكبلون بالسلاسل فى أعناقهم وأرجلهم، وذلك ما يفرض عليهم شرط الجمود، لعدم قدرتهم على الالتفات إلى الخلف، أو القيام من أماكنهم، وحتمية النظر فقط إلى الأمام، كما توجد شعلة نار خلفهم فى مستوى أعلى من مكانهم، بوصفها مصدر الإضاءة الوحيد فى الكهف، الذى يمر من خارجه أناس أمام هذه النار يحملون تماثيل بشرية وحيوانية، مصنوعة من الحجارة والخشب؛ عندئذ يرى البشر المقيدون الجالسون ظلال تلك التماثيل وغيرها منعكسة على الجدار القائم فى مواجهتهم، وعندما تصدر أصوات من الحاملين لتلك التماثيل تتبدد حقيقتها، حيث يعتقد البشر المقيدون أن هذه الأصوات التى يسمعونها إنما تصدر من تلك الظلال التى تظهر أمامهم. إن الرصد النظرى الذى طرحه أفلاطون، يؤكد أن هذه المجموعة من البشر أصبحوا سجناء منذ نعومة أظفارهم، وفرض عليهم الحرمان من التواصل مع غيرهم بوصفه استحقاقًا إنسانيًا، وذلك ما شكل ظلمًا متماديًا، راح يلاحق حقوقهم الحيوية كافة، إذ تم عزلهم عن الانفتاح على الفهم والإدراك، مرورًا إلى عملية إنشاء المعرفة، ولأنهم جردوا من أهليتهم، والسيادة على ذواتهم ومقدراتهم، لذا أصبحوا عبيدًا لحواسهم البشرية. صحيح أن ما يدركونه من صور وأصوات، محض خداع لا يعكس الحقيقة، لكن الصحيح كذلك أنه عندما انفتح أمامهم المنعطف الحاسم لمغادرة الكهف، إلى واقع العالم الأصلى خارج الكهف، تعذر على سجناء الكهف الأفلاطونى مغادرة كهفهم، انفتاحًا على مختلف معطيات المعرفة، ومتغيرات أنماط المعيشة الإنسانية، وذلك لأنهم انخرطوا فى وهم تصديق واقعهم، الذى يجردهم من أبسط حقوقهم الإنسانية لاعتقادهم أن ذلك هو اليقين، أما خارج الكهف فهو اللايقين؛ لذا ظلوا أسرى الجهل والظلام المعرفي. إن اندحار الذات الشخصية أو المجتمعية، يتأتى نتيجة التشرنق الذى يعزلهما عن التواصل، ويصيبهما بالتخثر، ولا مفر من ذلك إلا بالتواصل الحقيقي، دون كل أشكال الإقصاء. إن نزوع الإنسان إلى الحرية لا يتأتى إلا بمدى جدية اشتغاله على ذاته بشفافية، تكشف كل ما يهيمن عليها من أفكار وأفعال مسكونة بها، وأيضًا فى اقتداره على تطويع ذاته للتحرر من مفهوم القطيعة مع المختلف، منتبهًا لمشروعية حق الاختلاف، الذى رهانه طرح الحجج المعرفية برشد عقلي، دون النزوع إلى قولبة الآخر؛ إذ شرط حضور التواصل الإنسانى لا يتحقق إلا فى ممارسة العيش بشفافية. وقد تبدى لى هذا الحرص على التواصل من خلال متابعتى بعض ما بثته وسائل الإعلام المرئية، لفعاليات لقاءات «منتدى الشباب العالمي» الذى أقامته مصر وشارك فيه أكثر من ثلاثة آلاف شاب من أنحاء العالم، وقد دعمه الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ بل شارك فى فعالياته بجهد إيجابى ذاتى لافت، وقد أتاح هذا المنتدى انبثاق تجمع شبابى عالمي، يمارس الديمقراطية بحق، وذاتى الشفافية، وتسوده مشاعر الإخاء الإنساني. صحيح أن المحيط المعرفى للمشاركين يتفاوت وفقًا لطبيعة مجتمعاتهم؛ بل قد يتفاوت أيضًا ما يمكن أن يكتسبه كل فرد أو ما يستنتجه من معرفة، وذلك وفقًا لاختلاف القدرات التصورية الإدراكية من شخص إلى آخر، لكن الصحيح كذلك أن المعرفة البشرية التى تقودها اعتبارات التواصل والملاءمة والحوار، وأيضًا متابعة السياق، هى التى تشكل المهام الاستدلالية التى تقود إلى الفهم؛ إذ العقل التواصلى يستند إلى قوة الإقناع دون ضغط وسيطرة، وليس له مقياس آخر سوى القوة البرهانية، إنه شرط مؤسس لمجتمع يحل فيه العقل التواصلى محل المعايير السلطوية كافة. ونظرية الفعل التواصلى تعنى صياغة نظرية للتواصل وبلورة القوانين التى تتحكم فيه، هذا التواصل عبارة عن علاقة حوارية بين فئات المجتمع المتعددة والمتباينة أيديولوجيًا وطبقيًا، علاقة تتوخى بناء وعى حر لا تحكمه المؤسسات أو الأيديولوجيات المفروضة من قبل الأنظمة السياسية، علاقة تغوص إلى داخل مؤسسات المجتمع لتزيح عنها غلاف الزيف والتزييف، علاقة تجعل التقدم التقنى والمعرفة فى خدمة الإنسانس؛ إذ يرفض التواصل تثبيت السلوك الإنسانى على الطواعية الكاملة إكراهًا، بالاستجابة إلى كل ما يطرح قولاً أو يمارس سلوكًا، وذلك ما يعنى قولبة السلوك الإنسانى بالتدخل المنظم الذى يصطنع ظروفًا تجبر الإنسان على الامتثال لما يطلب منه؛ لذا فإن ما يجب أن يكون حاضرًا هو تأسيس العقل التواصلي. صحيح أن نجاح منتدى شباب العالم تبدى عبر اقتدار المصريين على ضبط تنظيمه، ومصداقية فعالياته، وأهمية موضوعاتها، وجدارة العلاقات التواصلية بين المشاركين، التى أثبتت أن البشر عندما يتواصلون يتغيرون ويغيرون، والصحيح كذلك أن الرئيس عبد الفتاح السيسي، أصدر قرارًا بإنشاء الأكاديمية الوطنية لتدريب وتأهيل الشباب، حيث تهدف الأكاديمية إلى تحقيق متطلبات التنمية البشرية للكوادر الشبابية بكل قطاعات الدولة والارتقاء بقدراتهم ومهاراتهم. وتتحدد أهداف الأكاديمية فيما يلي: تجميع طاقات الشباب فى عمل وطنى يفيد الدولة. نشر الوعى الثقافى والاجتماعى والدينى والسياسى بين قطاعات الشباب. إعداد كوادر سياسية وإدارية قادرة على معاونة الدولة فى مهامها. تنمية قدرات الشباب لتكون شريكًا وفعالاً فى الحكم المحلي. بناء شراكات مجتمعية تنموية فاعلة مع كل القطاعات (العام- الخاص- الأهلي). توعية الشباب بالأخطار والتحديات التى تواجه الدولة. تنمية مهارات الشباب وتأهيلهم لتلبية احتياجات سوق العمل. التوعية بالدور المجتمعى فى مواجهة جميع أنواع الأخطار التى تواجه الدولة. تشجيع الفن والإبداع والارتقاء بالفكر والذوق العام. العمل على الحد من التسرب من التعليم والمشاركة فى تعليم المتسربين. مواجهة ظاهرة أطفال الشوارع وتعليمهم وتأهيلهم لعمل جاد يفيد المجتمع. إن قرار الرئيس عبد الفتاح السيسى يطرح انطلاقة واعدة لمصر- رهانًا على شبابها- نحو مسار عقلنة تواصلها العالمى والمجتمعي، معتصمة بتفعيل منظومة الحقوق والاستحقاقات لمجتمعها، والتصدى للعقم العملى الذى أصاب مفهوم التقدم، ومتابعة انعكاسات التقدم المعرفى والعلمى والتقنى على بنية المجتمع المصري، عندئذ يصبح التاريخ هو الحدث وليس الزمن. لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى