إن الحياة خيارات، والإنسان يواجهها بأمواجها وإغواءاتها ومحظوراتها، مصطحبًا اقتداره، ممتطيًا إما حصان المعرفة وإما وحش الاستحواذ، ومهما تكن الآفاق مفتوحة أو محجوبة؛ فهناك من يفضل انتظار المستقبل بآلية سكونية، ليتلقاه دون تجاذب أو تنافر، وهناك من يستشيط غضبًا عندما يتلقى ما لا يريده، وهناك من يشرع فورًا فى رفضه سدًا أمام كل وافد، وهناك من يكون محرومًا من ذاتية فورية فى الاختيار، أولاستسلامه لمعطيات جاهزة، أو دون ذلك من الأسباب. ولأن الإنسان يحكمه اقتداره على التخيل، الذى يفتح أمامه إمكانات ذاتية لا يتوقعها؛ لذا فإن الانفتاح على المخيلة هو دليل امتلاء وفيض، ودليل انفتاح على العالم؛ لذلك تستهدف أشكال الإبداع الفني- بفضل خصائص صياغاتها- إعمال العقل بوصفه الجسر بين الفكر والعالم، وكذلك استثارة الخيال، وشحذ الوعى والمشاعر والأحاسيس الإنسانية؛ تعميقًا للكيان العقلى للوجود الإنسانى وانتظامه المجتمعي، الذى يرسخ للتواصل بين البشر، فى سياق تراتبية معاييره العامة وتمايز قيمه، حتى تتبدى «ذات» الإنسان فى بهاء زهوها الإنسانى. لكن كيف يتأتى لصبى فى الخامسة عشرة من عمره، أن يحقق زهوه الإنسانى وأبوه يضخ فى وجدانه نبوءة بأنه سيقتل أباه ويمارس الخطيئة مع أمه وأخته؟ وذلك استدعاء لأسطورة «أوديب» وكيف يتأتى أيضًا لرجل صعقوا ذاكرته، ودمروا قدراته، فراح يحاور القطط، ويتنبأ بأن السماء ستمطر سمكًا، ويبحث عن نصف ظله الضائع؟ لكن عبر إضفاء إبداعى من الروائى اليابانى المعاصر، الذى صنفته «الجارديان» بأحد أبرز الروائيين المعاصرين فى العالم، هاروكى موراكامى تبدت روايته التى بعنوان «كافكا على الشاطئ» تسبح فى بناء خارق ما بين امتدادات، وانقطاعات، وتحولات، وتصورات، ومزيج بين الحاضر والماضي، حرر الرواية من التطابق مع الواقع، كما يتجلى فى الواقعية الساذجة، أو العقلانية المسطحة، وتجاوزتهما إلى بناء لغزى يثير الدهشة بأحداثه التى تتصف بالغرائبية، والغموض، وتجاوز الواقع، وتتجلى عبر تقاطعات سردية تتسم بالتفتت، حيث تتبعثر ويتشظى نسقها الزمني، من خلال حكايتين متقاطعتين متوازيتين، هما حكاية الفتى «كافكا» الهارب من أبيه ونبوءته، وحكاية العجوز«ناكاتا» الذى يبحث عن نصف ظله المفقود. كان «تامورا» والد الفتى «كافكا» فنانًا تشكيليًا، ترى هل كان الفن قناعًا ماثلاً فيما يرسمه فحسب؟ إذ يبدو أنه كان مستغرقًا فى نشوزه واستبداده وممارساته السلطوية القاسية على أسرته؛ لذا هجرته زوجته، وابنته المتبناة، ولم يمكث معه سوى «كافكا» ابن السنوات الأربع، ولأنه خلال ممارسات القهر ثمة انبثاق للوعي؛ لذا عندما بلغ «كافكا» سن الخامسة عشرة، قرر الهرب من أبيه، ونبوءته له بأنه سيقتله ويمارس الخطيئة مع أمه وأخته، لم يكن «كافكا» يتذكر عن أمه شيئًا، وليس لديه عن أخته سوى صورة لهما وهما صغيران. هرب «كافكا» ليحرر ذاته من الشر، بالقطيعة مع الأب الذى راح يرسخ لديه حتمية استباحة المحظور. رحل إلى مدينة «تاكاماتسو» ليعيش حياة يتحقق له فيها معنى للحياة بعيدًا عن الشر. ترى هل المؤلف يستهدف تخطى القارئ السلطة الأبوية، وتأويلها لتصب فى السلطة الحاكمة الناشزة النازعة إلى الامتداد الشمولى استبدادًا وامتلاكًا للبشر؟ وإذ بتشابكية سياق حبكة الرواية تتوقف عن استكمال قصة «كافكا» لتنتقل بالقارئ إلى سرد قصة موازية لشخصية «ناتاكا» أحد حضور جريمة «راي» باول هيلس خلال الحرب عام 1944، حين كان تلاميذ إحدى المدارس اليابانية فى نزهة مع مدرستهم فى الغابة، فإذ بطائرة أمريكية تحلق فوقهم عن قرب وتستخدم سلاحًا كيماويًا، بعدها سقطوا جميعهم فى لحظة واحدة مغشيًا عليهم، وبعد فترة من الزمن عاد الوعى إلى الطلبة لكنهم لم يتذكروا شيئًا مما حدث، أما الطالب «ناتاكا» فقد ظل مغشيًا عليه فى المستشفى شهورًا حتى عاد إليه وعيه، لكنه لم يتذكر حتى والديه، ولم يعد يعرف القراءة والكتابة. أفقدته تلك الغيبوبة ذاكرته وقدراته، ومنحته القدرة على التحدث إلى القطط. ترى هل المؤلف باستحضاره تلك الواقعة يؤكد أن الشر لا يعرف القيم، ويطرد الحقيقة، ويمارس العنف، ورهاناته اليومية هى الاستباحة، تمامًا مثلما استباحت الطائرة الأمريكية اختراق حياة مجموعة من صغار الأطفال اليابانيين لتحجب عنهم ذاكرتهم، وتعطل عودتهم إلى ما كانوا عليه؟ إن الشر بتصميمه الوحشى وتقنياته يمتلك عقلاً إقصائيًا استبعاديًا، وأيضًا إرادة عمياء؛ لذا يحقق التشظى عن استكمال سرد حكاية «كافكا» انتقالاً إلى سرد حكاية «ناتاكا» ومأساته، استهدافًا فكريًا من الكاتب للربط بين الحكايتين كشفًا عن واقع الشر المزرى الذى تتخبط فيه الإنسانية. ودون تشابكية الحبكة السردية المتشظية، تتابع الأحداث الجوهرية للرواية بوصول «كافكا» إلى مدينة «تاكاماتسو» حيث استقر بالعمل فى مكتبة أهلية صغيرة معاونًا وقارئًا، ثم مساعدًا لأمين المكتبة. وكان «كافكا» قد تعرف إلى الفتاة «ساكورا» التى تكبره بستة أعوام، واستشعر - وهمًا- أنها أخته التى هربت مع أمه، لذا تجنب التواصل الجسدى معها. تعرف إلى مديرة المكتبة الآنسة زساييكيس وهى فى الخمسينيات من عمرها، وصاحبة قصيدة ولحن «كافكا على الشاطئ» التى أبدعتها للشاب الذى أحبته وفارق الحياة، فغادرت المدينة وعادت بعد خمسة وعشرين عامًا، لتعمل مديرة المكتبة. لقد أحبها «كافكا» مستشعرًا - وهمًا- بتوقع أن تكون أمه. صحيح أن الآنسة «ساييكي» لم تبح بشيء، والصحيح أن إنكار الشفافية يجعل الأوهام تطمس الحقيقة، لكن الصحيح كذلك أن «كافكا» مقولبًا بالوهم؛ لذا فإنه قد ضاجع الآنسة «ساييكي» فى أحلامه، ثم ضاجعها -وهمًا- فى حجرته بالمكتبة دون أن يعرف أنها أمه. إن الوهم لا يجدى معه الرحيل الجغرافي، ورهان تجاوزه الاشتغال على الذات. إن «ناتاكا» إحدى ضحايا جريمة «راي» باول هيل 1944س قد أصبح عجوزًا. ولأنه يتحدث إلى القطط؛ لذا احترف مهنة استرداد القطط الغائبة عن أصحابها، ويومًا ذهب إليه كلب وطلب منه أن يتبعه إلى المنزل، استقبله «تامورا» والد «كافكا» لكنه قدم نفسه باسم مستعار بوصفه خاطفًا للقطط، إذ يأكل قلوبها ساخنة، ويحفظ رءوسها فى «الثلاجة» ليصنع منها أطول «ناي» يحتل الكون كله، وطلب من «ناتاكا» أن يقتله وراح يفرط فى استفزازه بسلطان العنف العاري، فطعنه «ناتاكا» فسقط منهارًا، وذهب إلى الشرطة وروى ما حدث، ولأنه لم تكن على ملابسه أى آثار دماء ظنت الشرطة أنه مريض عقليًا وسمحت له بالانصراف، ثم أكدت الصحف خبر الجريمة. صحيح أن القتل تم فى «طوكيو» بينما يعيش «كافكا» فى «تاكاماتسو» البعيدة، لكن عندما علم «كافكا» بمقتل الأب استشعر أنه رأى على يديه دمًا ليلة الجريمة. إنها قولبة الوهم التى صاحبته. تتبدى تلك الرواية الرائعة كالحلم تتسم حوادثها بالغموض، لأنها تدين عالم اللايقين، وإنكار الشفافية التى تفسح الساحة للتضليل الذاتى وتضليل الآخر، فيعم الوهم كوسيلة لقولبة البشر، إغلاقًا للعقل تعطيلاً لنزع الوهم، ويسكن الشر العالم مهددًا بوباء النسيان. لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى