فى صمت مدهش مرت الذكرى الرابعة والأربعون لرحيل المفكر التنويرى الرائد طه حسين، وفى ظل أجواء معقدة على المسارين السياسى والثقافي، فالجماعات الدينية لم تتوقف عن إنتاج الخرافة، وتقديس الماضي، ومن ثم لم تتوقف عن الولع بالقتل والهوس بالدماء، والخطاب الفكرى الذى يجابه المد المتطرف لم يزل غائبا، أو محدود التأثير فى أكثر التعبيرات تفاؤلا، ولذا فإن استعادة طه حسين ليست فحسب استعادة لقيم الثقافة الوطنية فحسب، ولكنها بالأساس استعادة لمعنى التنوير ذاته، حين يواجه واقعا صلدا، يهيمن عليه الجمود والتصور السلفى للعالم. تختزل التصورات الفكرية لطه حسين تاريخا من الأفكار، وتحمل الطبيعة المتجددة للمفكر التنويرى وعيا بقيم العقل النقدى الطليعى حين يسائل واقعه وتراثه، ويسعى صوب غد أفضل لناسه وأمته، بحيث يمكنك أن تكتشف روح مصر وطبقاتها الحضارية من خلال طه حسين، فالنتاج المعرفى والإبداعى الذى خلفه عميد الأدب العربى يعد تعبيرا جماليا رفيعا عن قيم التقدم والاستنارة والحرية. فى العام 1926 أصدر طه حسين كتابه اللافت «فى الشعر الجاهلي»، هاج وماج التيار الدينى الذى كان يتخفى خلف عباءة المحافظة والتقليد وقتها، وصعد الأمر للبرلمان المصري، الذى كان حاويا جملة من التيارات السياسية المتصارعة، وهوجم طه حسين هجوما شديدا ودعا البعض إلى فصله من الجامعة، وقاد التيار الظلامى الحملة بشراسة ضد أحد أهم رموز التنوير فى الثقافة العربية، ظلت الواقعة المخزية حاضرة فى وعى طه حسين، ربما لم يخفف من آثارها القاسية سوى المذكرة التى قدمها وكيل النائب العام السيد محمد نور التى حوت دفاعا رصينا عن طه حسين والحرية الفكرية معا. وعلى الرغم من صدور الكتاب فيما بعد تحت مسمى جديد «فى الأدب الجاهلي»، فإن جوهر الفكرة التى أراد طه حسين تضمينها فى مؤلفه ظل حاضرا، كان التيار الدينى يسعى صوب توطيد أركانه فى المجتمع آنذاك، وكان صنيع طه حسين يفضى إلى خلخلة المستقر من الأفكار الجاهزة، كان المناخ الليبرالى فى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضى كفيلا بأن يرهن مفكر بحجم أحمد لطفى السيد استقالته من إدارة الجامعة بعدم تعرض طه حسين لأى عسف . تواصلت معركة طه حسين مع التيارات الظلامية، ولم تهدأ الاتهامات ضده حتى الآن، وراجت أباطيل كاذبة بحق الرجل الذى نذر نفسه للدفاع عن حرية التفكير، ولم يفت فى عضد المفكر الرائد كل هذه الخزعبلات، كان فى القلب غصة ولا شك، لكنه مضى مواصلا طريقه. عقب معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا، جاء كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر»، مشيرا إلى الجذر الحضارى للأمة المصرية، بانتمائها إلى الحضارة المصرية القديمة التى خرجت من عباءتها مع الحضارة اليونانية القديمة وحضارة الهند حضارات الغرب والشرق، ونبه إلى الانتماء المصرى لثقافة البحر المتوسط، ومن ثم فالصلة بين مصر وأوروبا وثيقة للغاية، ولذا كان البناء الجديد الذى يأتى عقب الاستقلال النسبى لمصر عن بريطانيا يجب أن ينهض من وجهة نظره على قيم الحداثة لإمكانية اللحاق بالعالم المتقدم، كان طه حسين أيضا مفكرا إجرائيا، لا يمنح لقرائه تصورات نظرية محضة فحسب، ومن ثم نبه إلى خطورة التعليم الديني، وحذر من ازدواجية التعليم لدينا ما بين مدنى وديني، وربما تكمن الأهمية الحقيقية لكتاب مستقبل الثقافة فى مصر فى كونه تأسيسا لفلسفة تقدمية تحوى أفكارا مؤسسة عن التعليم وإمكانية تطويره وعصرنته. حين تقرأ بتمعن المشروع الفكرى والإبداعى لطه حسين، تشعر وكأنه كان معنيا بالتأثير الفعلى فى حياة أمته، فنصوصه الإبداعية بدت تأسيسا ملهما للسرد فى بواكير علاقة العرب بالرواية الحديثة، ونصوصه المكتملة مثل «دعاء الكروان»، و«الحب الضائع» تمثل نقلة نوعية فى مسار السردية العربية، وأعماله النقدية وفى المتن منها «حديث الأربعاء»، و«من أدبنا المعاصر» بدت زوايا نظر عميقة للنص العربى قديمه وحديثه، وأحيانا تأسيسا مبكرا للغاية لطروحات فى نقد النقد، أو درسا تطبيقيا رفيعا فى الأدب المقارن من زاوية التأثير والتأثر بين نصين ينتميان لثقافتين وأدبين مختلفين. وفى مناخات العتامة والتطرف الدينى تصبح استعادة طه حسين واجبة، ويصبح استكمال ما بدأه أمرا لا غنى عنه فى استئناف مشروع التحديث المصرى والعربى من جهة، وتكريس فكرة الدفاع عن العقلانية بوصفها جوهر التنوير من جهة ثانية. وبعد.. يعد طه حسين تعبيرا حقيقيا عن روح مصر البهية، التى لم تزل قادرة على الفعل والحلم والمغامرة، بحيث بدت حيوية العميد جزءا من حيوية مصر ووهجها الذى لن ينقطع. لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله ;