مصر أم الدنيا وأصل الحضارة, وهي التي اكتشفت الدين وآمنت بالله الواحد قبل الرسالات السماوية, ومن هنا كان تدين أجدادنا الفراعنة تدينا حقيقيا نابعا من القلب, وانعكس هذا علي حياتهم وتصرفاتهم وأخلاقهم فكانت حضارتهم العظيمة, وكما نعلم فإن الحضارة سلوك وكانت حياتهم قمة الحضارة النادرة التي عرفت الضمير الانساني الذي هو أساس كل القيم الأخلاقية, وعندما كتب العلامة الأمريكي( هنري برستيد), كتابا عن مصر القديمة لم يجد عنوانا مناسبا له إلا فجر الضمير لأن مصر هي التي عرفت الضمير وعلمته للعالم. كانت حياتهم سعيدة وتدينهم حقيقيا, وأبسط دليل علي ذلك ما جاء في كتاب:( الموتي) من قيم أخلاقية متحضرة ومحاسبة الانسان لنفسه وحبه للآخرين وعدم الاساءة إليهم. استمع إلي الروح بعد الموت وهي تدافع عن نفسها أمام الاله فتقول: إني لم أظلم الناس والفقراء.. لم أمت أحدا من الجوع, ولم أبك أحدا, ولم أقتل أحدا ولم أخدع أحدا.. لم أنتزع اللبن من أفواه الرضع ولم أسيء لمياه النيل. وهل هناك تدين أكثر من هذا؟ لقد كان أجدادنا متدينين حقيقيين ولذلك أقاموا حضارتهم العظيمة. وتدور الأيام والسنون وتأتي الرسالات السماوية لتثبت حقيقة حدس المصري القديم, وأن الله سبحانه وتعالي موجود فعلا, وأن الدين ضرورة للمجتمع. وكان من الطبيعي أن ترحب مصر بالرسالات السماوية, وكما تقول الدكتورة نعمات أحمد فؤاد في كتابها: مصر والأديان: حين جاءت الأديان وآمنت بها مصر لم يكن إيمانها انقيادا بل إيمان الشخصية الحضارية, فمن السماحة وقابلية التطور ومرونة الإدراك أن تدرس الرأي الآخر وتنفذ إليه, فاذا اقتنعت به تقبلته دون جمود, وبهذا استمر دورها فلم تسقط الأضواء من علي قسماتها أبدا, فقد خرج من مصر نابهون وأعلام حققوا معني الدين في المرحلتين المسيحية والاسلامية.. ولولا أن مصر في قلبها نزوع الي السمو والعلو من قديم, لما تقبلت المسيحية والاسلام بمثل ما تقبلتهما. هكذا كانت مصر القديمة متدينة فعلا, وكان أجدادنا الفراعنة متدينين حقيقيين, وبعد أن جاءت الرسالات السماوية آمنت مصر بها, لأنها تتماشي وعقيدتها وإيمانها, ولأن الواقع أن فلسفة الأديان واحدة ولكنهم للأسف لا يعلمون! وأصبحت مصر مسيحية ثم إسلامية وعاشت الأديان جنبا إلي جنب مع الانسان المصري المتحضر, وخلال تلك الفترة كان المصريون متدينين حقيقيين فعلا كما كانوا قبل ذلك, المسيحي والمسلم كل منهما يؤمن بالله ويترجم ذلك عن طريق الحب الذي يجمع بين كل المصريين والمعاملات الطيبة التي تسود المجتمع. ودارت الأيام والسنوات وأريد أن أصل الي عصرنا الحديث لأكرر السؤال الذي يفرض نفسه علينا دائما: هل المصريون الآن متدينون فعلا؟ وأقصد المصريين جميعا بالطبع مسلمين ومسيحيين.. الواقع أن المصريين كانوا في الزمن الجميل, في الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضي متدينين حقيقيين يعرفون ربهم ويبتعدون عن الشر, فلم نكن نسمع عن الجريمة إلا في أقل القليل, وكان المجتمع متحابا يسوده الود والرحمة. وجاءت السبعينات بأهوالها وعواصفها غير الوطنية. ارتفعت صيحة الدين عالية, وحشروا الدين في كل قضايا المجتمع, مع أن الدين الحقيقي هو بين الانسان وخالقه, وحوصر المواطن في كل حياته بمظاهر الدين, في الإذاعة والتليفزيون والصحافة وحتي في المدارس والجامعات, ومع صيحة الدين العالية انتشرت بعض الأفكار الخرافية والغيبية البعيدة عن العقل, سمعنا عن العلاج بالدين, والنجاح بالدين واستخدام الجن والعفاريت في كل شئون الحياة, وانتشرت أيضا فتاوي لبعض المجتهدين الذين ليس لهم بالدين صلة, وحار الناس فيما يقدم لهم, ومن الطبيعي أن تسود رذيلة التعصب والتواكل والكسل وينقسم المجتمع علي نفسه, وكل مجتمع ينقسم علي نفسه يخرب بالطبع, وسمعنا عن أحداث كثيرة هزت المجتمع هزا, وأصبح كل من هب ودب يحدثك في الدين ويناقشك محاولا فرض أفكاره عليك بالقوة, وعندما تعترض فانك كافر زنديق لا مجال لك في مجتمع التدين الصوري. واذا حدثتهم عن العقل أجمل هدية منحها الله للانسان ينظرون لك باحتقار ودونية ويتهمونك بالعلمانية وهم لا يعلمون معناها! تحولت مصر إلي التدين الصوري البعيد عن الايمان الحقيقي, وعندي أن المتدينين الحقيقيين الآن لا تبلغ نسبتهم50% وأقل, أما الباقون فهم الذين يأخذون من الدين مظهره وشكله فقط في الملبس والمظهر والكلام والسلام. وأبسط دليل علي تدين المصريين الصوري في الأربعين سنة الأخيرة, انتشار الجريمة غير المعتادة في مصر والتي يشيب لها الولدان. انه التدين الصوري النمطي الذي لا يعرف روح الدين أو تعاليمه. هكذا أصبح المصريون غير متدينين حقا, بل أبعد ما يكونون عن التدين وروعته وجماله. لكن ما العمل وكيف نعيد المصريين إلي صحيح الدين والايمان الحقيقي حتي ينتشر السلام والحب والوئام في المجتمع؟ يجب أن نؤمن بضرورة الاصلاح, وهنا أستعير عبارة شكسبير الخالدة: نكون أولا نكون. والاجابة يجب أن نكون ونعيد لمصر مكانتها ولشعبها احترامه ووقاره وحياته السعيد. في رأيي أن أول شئ هو تعديل الخطاب الديني حتي يخاطب الناس بحب ويجذبهم الي التدين والايمان بالله, نريد من الخطاب الديني أن يحدثنا عن حياتنا كما يحدثنا عن آخرتنا. وقبل الخطاب الديني يجب أن يراعي الدقة والدقة الشديدة في اختيار رجال الدين, فليس كل الناس ولا أي انسان يصلح لأن يكون كاهنا في الكنيسة, أو شيخا في المسجد. إن رجل الدين يجب أن يكون منذ طفولته مستعدا ومؤهلا لذلك, فتكون طفولته هادئة طيبة, يميل لعمل الخير ويبتعد عن أصدقاء السوء, ويحب الناس ويتقدم لخدمتهم برغبته, ثم يجب ان يكون متعلما ومثقفا يدرس العلوم الدينية والدنيوية, ويدرس الفلسفة حتي يحترم الرأي والرأي الآخر, رجل الدين لابد وأن يعرف مباديء علم النفس ويتعامل مع الجميع بحب.. إذا أردنا أن يكون المصريون متدينين حقا يجب أن نبدأ الاصلاح باختيار موفق لرجال الدين ثم تطوير الخطاب الديني والاهتمام بالعقل للقضاء علي الخرافات.