خطاب الكراهية هو خطاب يعادي حرية الآخر؛ لذا يسعى إلى حجبه بهدر استحقاقاته، وإنكار خصوصياته وجرفها بإقصائه، وأيضًا يرفض التعددية إلى حد الإنكار، بوصفها تضم أغيارًا ليسوا صنوه ونظيره؛ لذا فإن خطاب الكراهية لا يعرف التكامل والتضامن؛ إذ هو مسكون بالتعصب، وغارق في تصوراته الذاتية التي تعزز استبداده المفضوح؛ بل ومنقطع عما ينبغي أن ينتهي إليه من المعرفة الإيجابية، بأفكارها وقيمها ودلالاتها التي تحقق الانضباط الإنساني، لذا يظل خطاب الكراهية معتصما بالتعصب، متشبثًا بممارسة الاستعداء الممنهج ضد الآخر، تتلبسه لوثة القوى المتحكمة في طريقة فهمه لذاته والعالم، لتبديد الآخر وتسفيه قيمه باستعلاء وتمايز، فهو يقيس غيره، وكل الأغيار، ولا أحد سوى ذاته تقيسه. إن خطاب الكراهية يتبدى كاشفًا عن حراك تعصبي هجومي بالكلام ضد الآخر، مستهدفًا الحط من قدر ذلك الآخر، والتقليل من شأنه، وتقليب الآخرين ضده، بسبب دينه أو عرقه أو غيرهما، ويتجسد خطاب الكراهية في آراء بغيضة تمارس على نحو مستفز؛ إذ ينجرف نحو الوصم والازدراء، ويستدعي الإساءة، والتحقير والإهانة، والإدانة، ويستهدف تشجيع غيره على مماثلته في ممارسة القصف والقذف، تجريدًا للآخر من وجوده، وذلك ما يشكل للآخر ضررًا على المستوى الاجتماعي؛ بل يتجلى أيضًا في اضطرابه عاطفيًا وفكريًا. إن استفحال تداول خطاب الكراهية، يكسبه التعصب إلغاء عملية الإدراك، ويصبح أسيرًا للتلقين، أو لما يتملكه ذاتيًا من شعور داخلي يدفعه إلى التشدد والمغالاة، والتمترس في الاعتقاد بصوابه، حيث لا إمكانات للتفاهم، عنادًا وجمودًا. صحيح أن خطاب الكراهية المهدد، والمتجبر، والجائر، يتحمل عبء أفعاله ذلك «الكيان» المكتسب غير المرئي للإنسان، بوصف «الكيان» نتاجًا ثقافيًا يؤهل الإنسان ويصوغه، والصحيح كذلك أن من ينفذ تلك الأفعال هو جسد ذلك الإنسان، لكن الحضور الحقيقي للإنسان ليس بجسده فقط؛ بل أيضًا بسمات كيانه المكتسب غير المرئي؛ لذا فإن «الكيان» الإنساني بقدر وساعة انفتاحه على العالم، وعيًا، ومعرفة، واقتدارًا يصبح هو الحصن الذي يمكن أن يعتصم به الإنسان في رفضه خطاب الكراهية، عندئذ يرتبط الجسد بكيانه، أي إن من يستطيع الاستيلاء على «كيان» إنسان يمكن أن يمارس سلطانه المطلق علي أفعاله ضد كل الحدود والأعراف، بواسطة الإيهام الفردي أو الجماعي، ويعد «التعصب» إحدى هذه وسائل الإيهامات، بوصف «التعصب» شعورًا داخليًا مدمرًا على المستوى الفردي أو الاجتماعي، إذ يجري تنشيطه ذاتيًا أو بالتلقين، فيستحضر أشكال العصبيات البربرية، حيث بانطباقه المغلق على كيان الفرد دون أي ضوابط عقلانية معيارية لاستحقاقات الآخر، يصيب الإنسان بالعماء المتشبث المغتصب الذي يرسخ مغالاة وتضليلاً بأن الوهم بصحة ما يعتقده هو «الحقيقة» فارضًا انقلابًا في المفاهيم؛ إذ بدلاً من أن الحقيقة هي التي تؤسس «الاعتقاد»؛ إذ بالاعتقاد يؤسس الحقيقة ويصبح لها معيارًا؛ لذا يمارس المتعصبون- بوصفهم يعتبرون أنفسهم صناع الواقع، والممثلين الفعليين له- صراعًا مستمرًا بين المتداول والحقيقة- دون غطاء معياري لاستحقاقات غيرهم- ليتأسس للمتداول - كما يأملون- سلطة تجذب الولاء له، في مواجهة الحقيقة التي يسعون إلى تدميرها، حيث يعتصم المتعصبون أصحاب خطاب الكراهية، بالصفاقة والغرور والتسلط والتشويه والمداهمة المطلقة، ليؤكدوا يقين فعالية سلطة «الخطأ» إكراهًا واستتباعًا، دفعًا للناس للانصراف عن طلب الحقيقة. إن المتعصبين أنصار خطاب الكراهية ينكرون المختلف، ليس حفاظًا على هوية العقل مع ذاته، ولا حرصًا على تماسك معرفي؛ بل استهدافً لاستبعاد كل تواصل مع المرفوض والغريب واللامسيطر عليه، دينيًا، وعرقيًا، وفكريًا واجتماعيًا، ثم راحوا يورطون بلدان العالم بأعباء أفعالهم، التي يمنحونها قدسية دينية كصواب مطلق، منعًا للعقل من مناقشتها؛ لذا أصبح «خطاب الكراهية» بتعريفاته المختلفة بحكم المحظور في عدد من الدول، كما أصدرت «الرابطة العالمية للحقوق والحريات» بجنيف، بيانًا عن «خطاب الكراهية ونبذ العنف» أوردت فيه تحديدًا ما يلي: «ظهرت في السنوات الأخيرة، سلسلة من الأحداث شغلت البلدان العربية والإسلامية، وهزت استقرارها وأمنها الاجتماعي، وجرت المنطقة إلى صراعات وفوضى داخلية أودت بحياة مواطنين أبرياء، كما مست بحرمة دور العبادة، والتحريض على الانتقام والكراهية والانزلاق إلى متاهة العنف، ومن الملاحظ أن خطاب الكراهية تزايد بشكل يدعو إلى القلق في المنطقة العربية خلال السنوات الماضية، وبموازاة ذلك تنامت مظاهر الشحن الطائفي، انجرت وسائل الإعلام إلى ذلك، كما انزلقت السلطة التنفيذية في بعض الدول إلى التمييز الطائفي مع استعداء طائفة من المواطنين ضد طائفة أخرى». صحيح أن البيان طرح أربعة أسئلة، ثم أجاب عنها، وتشكل تلك الإجابة خريطة طريق لضمان حماية حقوق الإنسان من أخطار «خطاب الكراهية والتطرف» اعتمادًا على رصيد إسهامات الأممالمتحدة، والرابطة العالمية للحقوق والحريات في هذا المجال، والصحيح أيضًا أننا في حاجة إلى إيقاف دوامات العنف، التي تتبدى ذات طابع ديني تعصبًا، وعنصرية، وطائفية، حتى أصبح الاختلاف يعم كل شيء، وصار وحده هو المعيار، والصحيح كذلك أننا نريد أن يصبح الوجود الإنساني في العالم وجودًا حقًا، وليس الهيمنة عليه، وجودًا يؤسس لاقتدار الإنسان على الانفتاح على الآخر دون استقطاب، وذلك بزوال كل فكرة في إمكانية قيادة الآخر، حتى يتمكن كل فرد من قيادة ذاته، دون فرض رؤية أحادية على العالم؛ بل السعي إلى تأكيد المشتركات الإنسانية دون أن يعرض أحد نفسه بديلاً لأحد؛ لذا فإن الصحيح أن تتولى مؤسسات الضبط الاجتماعي في بلدانها بخصوصية مجتمعاتها، مواجهة تلك الظواهر تفعيلاً للعلاقة بين الراهن والذاتي، ولا شك أن مبادرة أعرق مؤسسات الضبط الاجتماعي دينيًا في مصر والعالم الإسلامي، التي طرحها الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، بشأن إعداد الأزهر مشروع قانون لمكافحة وتجريم الحض على الكراهية والعنف باسم الدين، هو مشروع يعكس وعيًا رفيعًا يتأسس على تواصل مجتمعي مشروع، يحفظ للدين تواصله، حتى لا يستخدم كأداة تسلط وهيمنة؛ بل يظل فتحًا مبينًا للإنسان بإعلاء شريعة الخالق وحده، وفك ارتباط الدين- تزييفًا- بالأعمال السالبة، تصديًا لخطة التجني عليه قصدًا، إنه مشروع إطلالة تكشف المنهج الاختزالي التعسفي اللامدقق، المشوب بالعداء والكراهية، وتعري عمليات التوهم التي تلحق بالدين، في حين أن الدين يؤسس الحياة الاجتماعية على معايير تضمن عدالة العلاقات التي تحكم الإنسان بالآخر. إن مشروع الأزهر يترافق معه توجه لنشر ثقافة التسامح، ذات الأثر الفاعل في تغيير الوعي الاجتماعي دعمًا للسلوك الجماعي، انطلاقًا من أن جوهر الاجتماع الإنساني في الوطن الواحد، يقوم على التواصل الذي يسهم في بناء التضامن الاجتماعي، بوصف التسامح دليل الإنسان إلى إنسانيته. لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى