يحدث كثيرا فى حواراتنا ان يصف بعضنا بعضا بالتعصب هذا يتعصب لناد كروى وذاك يتعصب لدين أو لتيار دينى وآخر يتعصب لزعيم صار فى ذمة التاريخ ورابع لرئيس أو ملك وهكذا ويقصد هؤلاء بالتعصب فى هذه المواقف التعبير عن شدة الاعجاب والتحمس ويعتبره بعضهم امرا محمودا إذ يعكس قناعته وإخلاصه لمن يتعصب له وحقيقة الامر ان التعصب رذيلة ممقوتة بل هو مرض فكرى مستعص يصيب الانسان بالعمى المعرفى فيفقده القدرة على الادراك الصحيح والحكم السليم على الاشخاص والمفاهيم المختلفة, واتناول فى هذا الصدد مبحثا لفيلسوفنا الكبير د.فؤاد زكريا رحمه الله من كتابه «التفكير العلمي» والذى يعد من افضل ما قرأت حول داء التعصب حيث يقول فيه: التعصب هو اعتقاد باطل بأن المرء يحتكر لنفسه الحقيقة أو الفضيلة وبأن غيره يفتقرون اليها ومن ثم فالآخرون دائما مخطئون أو خاطئون فحين اكون متعصبا لا اكتفى بأن انسب لذاتى كل الفضائل بل اننى استبعد فضائل الآخرين وانكرها واهاجمها اذ لا ينتقص من الاخرين ويرجع التعصب إلى توحد الفرد مع الجماعة التى يتعصب لها فيمحو شخصيته وفرديته ويذيب عقله أو وجدانه فى هذه الجماعة ويستتبع ذلك ان المتعصب لا يفكر فيما يتعصب له بل يقبله على ما هو عليه وحسب فيلغى التعصب تفكير الحر وقدرته على التساؤل ويشجع فيه تقديم الخضوع والطاعة والاندماج. والتعصب ليس موقفا يختاره الإنسان لكنه يجد فيه نفسه.. اى أن التعصب يفرض نفسه على الإنسان المهيأ تربويا، كالجو الخانق الذى لا نملك إلا أن نتنفسه أى أن التعصب يكره الآخرين من خلال الشخص أو يقتلهم بواسطته وهو أداة يتخذها لتحقيق هدفه المشئوم أى أنه حين يقع تحت قبضة التعصب يصبح لا شيء ولا يسعى من أجل شيء ولا ان يلبى نداءه، لكن لماذا يطل التعصب برأسه البغيض وطبيعته الدامية خلال هذه المرحلة من تاريخنا؟ إننا نفسر ذلك بما طرحه د. فؤاد زكريا فى المبحث حين قال: يمثل التعصب حاجة لدى الإنسان إلى من يحتمى به ويعفى نفسه من التفكير واتخاذ القرار فى ظله أى أن الحماية هنا متبادلة فالاتجاه الذى نتعصب له يحمينا من عناء التفكير واتخاذ القرار وفى الوقت نفسه فهذا الاتجاه يضمن لنفسه الحماية عن طريق أنصاره الذين يرفضون كل رأى مخالف ويهاجمونه بعنف ويسعون إلى تصفيته ولو بإراقة الدماء أى أن المتعصب والتوجه الذى يذوب فيه يحمى كل منهما الآخر بمعنى أن التعصب نوع من الخمر أو المخدر الذى يخدر التفكير ويبطله ويضع أمامنا صورة باطلة للواقع لا ترتكز على أى دليل أو منطق بل إنها تستمد قوتها من تحيزنا لها بلا تفكير. ولاشك أن هذه السمات تنطبق على جميع اشكال التعصب العنصرى والقومى والكروى والتعصب الدينى أسوأ هذه الأشكال إذ إن المتعصب يدعم موقفه بادعاء أنه يتحدث عن الله عز وجل لذلك يسود عند هؤلاء جميعا الشعور بالاستعلاء على الآخرين والاعتقاد بأنهم أحط منهم ويغلق التعصب امام هؤلاء أبواب ونوافذ عقولهم اغلاقا محكما حتى لا تنفذ إليهم نسمة من حرية التفكير التى يمكن أن تهدد موقفهم الذى يتعصبون له بل ويهددهم شخصيا بقدر ما توحدوا مع ما يتعصبون له. ولعل ما حدث فى ألمانيا أيام الحكم النازى مثال صارخ على عمق تحكم التعصب وخطورة ما يمكن أن يؤدى إليه فتلك الأمة الفتية العالمة تم اقناعها بالتميز والتفوق على الآخرين!! فكلفوا البشرية أكثر من عشرين مليون قتيل قبل ان يستفيقوا من مرضهم الغبي.. إن الموضوع الذى تتعصب له يتحول إلى اسطورة فيختفى طابعه الحقيقى ويحل محله طابع وهمى مختلف ويتلاشى التفكير المنطقى ويسيطر مكانه التفكير الذاتى السوداوي. ما اخطر هذا الوباء الذى تفشى فى مجتمعاتنا وارى أنه لا يمكن التعامل معه تعاملا ظاهريا بل تنبغى معالجة اسبابه من جذورها وأهم هذه الأسباب هو الشعور بالضياع وفقدان الانتماء مما يدفع الشخص إلى البحث عن مبدأ يتعصب له ليحقق له الأمان والحماية ولا شك أن حاجتنا لهذه المعالجة عاجلة وممكنة بعد أن وضعنا أيدينا على مسببها الأول خاصة بعد أن بدأ فريق من المتعصبين فى الانتقال من التعصب الفكرى إلى سفك الدماء. د.عمرو شريف