نجتاز اليوم موقفا تعثرت الآراء فيه! وعثرة الرأي تردي كما نبهنا شاعر النيل; فنحن مطالبون بالدفاع عن الثقافة المصرية إزاء ما يتهددها من خطر محدق, فتيارات الإسلام السياسي وقد غرها بالوطن الغرور. تسعي اليوم جاهدة إلي الفوز بحقائب وزارات ثلاث لتحكم السيطرة علي عقل مصر, والوزارات المطلوبة هي التعليم والثقافة والإعلام, فضلا عن المؤسسات الصحفية الكبري التي يحاول مجلس الشوري أن يهيمن عليها, ليبدو وكأنه يتبع سنة الحزب الوطني المنحل ويطمح إلي أن يرث تركته, بدلا من أن يعمل علي تصحيح الأوضاع التي خلفها استبداد النظام القديم وطغيانه! وسط هذه المحن التي نرجو أن نجتازها بأقل الخسائر; حلت الذكري الخمسون لرحيل علم فذ من أعلام حركة النهضة المصرية منذ أوائل القرن الماضي, وقطب من أهم أقطابها الذين حملوا علي عاتقهم مهمة الاحتكام للعقل في مواجهة الخرافة, ورفع راية العلم في مواجهة الجهل, والانتصار للحرية في مواجهة الاستبداد والطغيان; ذلكم هو' إسماعيل مظهر'(1891-1962); فلتكن هذه الذكري مناسبة نصل فيها ما انقطع; ونجلو عن الذاكرة ما ران عليها من صدأ! ينتمي' إسماعيل مظهر' إلي هذا الجيل المؤسس الذي قاده' أحمد لطفي السيد'(1872-1963) وراد له الطريق, فاستحق لقب:( أستاذ الجيل). ولعل ما يجمع ما بين هؤلاء الأعلام الكبار أظهر مما يفرق, فقد خاضوا جميعهم معركة واحدة وإن اختلفت الأدوار وتباينت الرؤي, وتعرضوا في سبيل الدفاع عن آرائهم لدرجات متفاوتة من العسف وسوء الفهم, وواجهوا تهما جائرة بالتكفير, وفصل بعضهم من عمله, وصودرت كتب بعضهم وحوكموا, ولم يسلم بعضهم من السجن; ولكنهم لم يهنوا ولم يتخلوا يوما عن رسالتهم المقدسة. ولا شك في أن الطابع الموسوعي في أعمال هؤلاء الرواد, قد كان هو السمة العامة التي وسمت كتاباتهم وترجماتهم بدرجات متباينة; وهو أمر مفهوم بالنظر إلي دورهم التأسيسي الذي فرض عليهم أن يسدوا الفراغ الثقافي في ميادين شتي, وأن يواجهوا سؤال( الهوية) في مرحلة كانت تستدعي أول ما تستدعي اختبار الإجابات المختلفة الممكنة علي هذا السؤال, ثم استبقاء ما يصلح منها لخدمة مشروع النهضة, ونبذ ما يعارضه ويقف في سبيل تحقيقه. علي أن سؤال( الهوية) يبقي من الأسئلة المركبة التي تشتبك مع أسئلة أخري مهمة, بحيث لا نستطيع أن نجيب علي أحدها دون أن نجيب عنها كلها; ويأتي علي رأسها سؤال( الآخر); ومن هنا فقد كان علي هؤلاء الرواد أن ينظروا بعين إلي التراث فيحققوا ويبحثوا; وبالعين الأخري إلي الثقافة الغربية ثقافة الآخر- فيترجموا ويؤلفوا ويقارنوا. وكان عليهم كذلك أن يشخصوا بأبصارهم إلي التاريخ, انطلاقا من لحظتهم المعاصرة بما تطرحه من أسئلة وتثيره من قضايا ومعضلات. في هذا الإطار عاد أستاذ الجيل' أحمد لطفي السيد' إلي الفلسفة اليونانية فنقل أعمال' أرسطو' إلي العربية; وعاد' طه حسين' أيضا إلي فكر اليونان وأدبهم, دون أن ينشغل به عن التراث الجاهلي والإسلامي; ويصدق هذا علي رواد النهضة كافة; ففي وقت أن كانت التيارات المحافظة في الغرب ذاته تقف في وجه نظرية( التطور) وتتهمها بالخروج علي الدين; أقدم' إسماعيل مظهر' علي ترجمة كتاب' داروين':( أصل الأنواع) في وقت مبكر(1918) وهو دون الثلاثين, كما أصدر عام1923 كتابه المهم:( ملقي السبيل في النشوء والارتقاء), لشرح فلسفة التطور وتفصيل دقائقها كما انتهت إليه في( أصل الأنواع); وهو الكتاب الذي انتبه' زكي نجيب محمود' إلي أهميته البالغة, فقرره علي طلاب الدراسات العليا بقسم الفلسفة خلال السبعينيات. ترك لنا' إسماعيل مظهر' بضعة وثلاثين كتابا ما بين مؤلف ومترجم, وقد نفدت طبعات هذه المؤلفات والترجمات منذ وقت طويل. ولا شك في أننا لا نزال بحاجة إلي إعادة نشرها, لا سيما أن أغلبها يلبي حاجتنا إلي نشر الثقافية العلمية الرفيعة, ويقدم لنا عونا أكيدا في التمكين للتفكير العقلاني المستنير, وهو يواجه هذه الأيام هجمات شرسة تريد أن تعصف بحرية التفكير وتدفن ميراث النهضة في الرمال. ولا نقدم هنا حصرا شاملا لمؤلفات' إسماعيل مظهر' وترجماته, فهذا أمر يقصر دونه المقام; لا سيما أن له مقالات كثيرة كتبها في أثناء عمله بالصحافة دون أن تجمع بين دفتي كتاب; باستثناء بعض ما جمع ونشر بعد رحيله حول النقد الأدبي وصلة الأدب بالحياة; وإنما حسبنا أن نشير إلي أهم مؤلفاته:( ملقي السبيل في النشوء والارتقاء)1923;( معضلات المدنية الحديثة)1928;( تاريخ الفكر العربي)1928;( قصة الطوفان)1929;( وثبة الشرق)1929;( فلسفة اللذة والألم)1936;( مصر في قيصرية الإسكندر المقدوني)1937;( عصر الاشتراكية)1947;( تجديد العربية)1948;( المرأة في عصر الديمقراطية).1949 أما ترجماته غير( أصل الأنواع) فأهمها:( تاريخ العلم والإنسية الجديدة) لجورج سارتون, و(حياة الروح في ضوء العلم) لإدموند سينوت. وأول ما نلاحظه في عناوين هذه الأعمال, هو السمة الموسوعية التي أشرنا إليها; كما نلاحظ انحياز المؤلف إلي ما يؤسس الوعي الفلسفي والتاريخي والعلمي, في وقت كان فيه هذا التأسيس مطلبا ملحا لكي تتحقق النهضة المرجوة; وهو ما يمكن أن نلاحظه أيضا في أعمال سائر رواد النهضة بدرجات متفاوتة; بغض النظر عن تحولات معظمهم في أخريات حيواتهم. وإذا كان نتاج' إسماعيل مظهر' قد اشترك في تلك السمة الموسوعية مع نتاج أقرانه, فإنه ينفرد عنهم بالتأليف المعجمي الضخم الذي ربما لا تتسع له حياة فرد بعينه, اللهم إلا إذا كان من أولي العزم كما كان' مظهر'; إذ أخرج لنا( قاموس النهضة- إنجليزي/ عربي) و(قاموس الجمل والعبارات الاصطلاحية الإنجليزية والعربية) و(معجم مظهر الإنسيكلوبيدي) في ثلاثة أجزاء; وهي كلها من الأعمال التي تستحق منا إعادة النظر, لنعيد نشر ما نتوسم فيه النفع, ونصبح علي بينة بالأسس التي شادها رواد النهضة, بحيث يتسني لنا أن نكمل البناء انطلاقا من تلك الأسس. المزيد من مقالات حسن طلب