توقيع أضخم اتفاق للشراكة الدولية بين جامعات مصر وفرنسا    وزير الأوقاف يستقبل رئيس جامعة القاهرة ونائب الأمين العام لمجلس العلماء الإندونيسي    البورصة المصرية تربح 5 مليارات جنيه في ختام تعاملات الخميس    وزير السياحة والآثار: الاستفادة من كافة الكفاءات والخبرات الموجودة بالوزارة    وزير الخارجية يطالب الأمم المتحدة بالضغط إسرائيل لفتح المزيد من المعابر الإسرائيلية مع غزة    مصر على رأس الثالثة| المجموعات الكاملة لقرعة تصفيات كأس الأمم الإفريقية 2025    خالد محمود يكتب : دموع رونالدو .. فيلم بلا نهاية    استمرار مراجعات ليلة الامتحان المجانية للمرحلة الثانوية بالغربية    اتخاذ الإجراءات القانونية ضد أب ترك أطفاله يخرجون من نوافذ السيارة حال سيرها بالمنصورة    الرئيس السيسي ينيب محافظ القاهرة لحضور احتفال العام الهجري الجديد    محافظ الشرقية يُوجه مديري إدارات الديوان العام للنهوض بمنظومة العمل وتقديم أفضل الخدمات للمواطنين    أسامة ربيع يناقش سياسات إبحار السفن الكورية عبر قناة السويس    تداول 7 الاف طن بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    قادة "شنغهاى للتعاون" يدعون لوقف إطلاق النار فى غزة وتأمين وصول المساعدات    أمريكا تخصص حزمة مساعدات عسكرية جديدة لدعم أوكرانيا ب 150 مليون دولار    تحرير 38 محضرا تموينيا وضبط 2650 قطعة حلوى مجهولة المصدر بالأقصر    فتح التقدم للحاصلين على الشهادة الإعدادية للالتحاق بمدارس التكنولوجيا التطبيقية    تعرف على إيرادات فيلم جوازة توكسيك لليلى علوى في أول أيامه بالسينما    تامر حسني يُفاجئ جمهوره بأغنيته الجديدة «جامدين جامدين» (تفاصيل)    صاحب فكرة "بيت السعد": أحمد وعمرو سعد يمتلكان موهبة جبارة وهما الأنسب    ورش رسم وأداء حركي ومسرحي للموهوبين في ثاني أيام مصر جميلة بدمياط    وزارة الأوقاف تحتفل بالعام الهجري الجديد 1446ه بالسيدة زينب مساء السبت    وزير الصحة يستأنف جولاته الميدانية بزيارة محافظة الإسكندرية    رئيس هيئة الاعتماد يتابع الموقف التنفيذي ل«مؤشر مصر الصحي» مع مديري الجودة بالمنشآت الصحية    محافظ القليوبية يعتمد خطة صيانة جميع مدارس    الهلال الأحمر الفلسطيني: العدوان المستمر أخرج غالبية المستشفيات عن الخدمة    السيسي يشيد بدور الهيئات القضائية في حماية حقوق المواطنين وصون مصالح الوطن    محافظ قنا يبدأ عمله برصد حالات تعدٍ على الأراضي الزراعية    مانشستر يونايتد يمدد تعاقد تين هاج    تقرير مغربي: اتفاق شبه نهائي.. يحيى عطية الله سينتقل إلى الأهلي    قرار بتكليف عبده علوان بتسيير أعمال الهيئة القومية للبريد    وزير الأوقاف يتلقى اتصالا هاتفيا من وزير الشئون الإسلامية بدولة إندونيسيا    وزير التعليم يتفقد ديوان الوزارة ويعقد سلسلة اجتماعات    «السبكي» يشارك في احتفالية الهيئة العامة للتأمين الصحي لمرور 60 عامًا على إنشائها    مستشفى الصدر بالزقازيق بين الماضي والحاضر |صور    متى موعد إجازة رأس السنة الهجرية 2024 للموظفين بالقطاعين العام والخاص ؟    أشرف زكي يكشف حقيقة تدهور الحالة الصحية لتوفيق عبدالحميد    "مهرجان العلمين".. عروض مسرح واستمتاع بالشواطئ العامة مجانا    تأكيدًا ل المصري اليوم.. الزمالك يعلن رسميًا انتهاء أزمة خالد بوطيب    نظام أمان مبتكر لمواجهة انزلاق السيارة على الماء    أمين الفتوى: لا ترموا كل ما يحدث لكم على السحر والحسد    بدء الصمت الانتخابي اليوم تمهيدا لجولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية الإيرانية    تحرير 35 ألف مخالفة مرورية خلال 24 ساعة    أستاذ جراحة تجميل: التعرض لأشعة الشمس 10 دقائق يوميا يقوي عظام الأطفال    سويلم يتابع ترتيبات عقد «أسبوع القاهرة السابع للمياه»    مباحث العمرانية تضبط عاطلين بحوزتهما 5 كيلو حشيش    البيت الأبيض: هدف باريس وواشنطن حل الصراع عبر الخط الفاصل بين لبنان وإسرائيل دبلوماسيًا    "رغم سنه الكبير".. مخطط أحمال بيراميدز يكشف ما يفعله عبدالله السعيد في التدريب    العكلوك: الاحتلال يستهدف التوسع الاستيطاني وتقويض صلاحيات الحكومة الفلسطينية    «دون وفيات».. انهيار منزل من 5 طوابق بالمنوفية    ارتفاع حصيلة ضحايا التدافع بولاية براديش الهندية ل123 قتيلا    بعد فاركو.. موعد مباراة الزمالك المقبلة في الدوري المصري    موعد إجازة رأس السنة الهجرية واستطلاع هلال شهر المحرم    حظك اليوم برج الجوزاء الخميس 4-7-2024 مهنيا وعاطفيا    دعاء استفتاح الصلاة.. «الإفتاء» توضح الحكم والصيغة    أول ظهور لحمادة هلال بعد أزمته الصحية    قصواء الخلالي: الحكومة الجديدة تضم خبرات دولية ونريد وزراء أصحاب فكر    أول رد سمي من موردن سبوت بشأن انتقال «نجويم» ل الزمالك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رؤى نقدية
التنوير .. والدكتور محمود زقزوق
نشر في الأهرام اليومي يوم 28 - 04 - 2017

التنوير قضية محورية فى عملى الثقافى العام، وفى عملى الأكاديمى الخاص، وذلك منذ أدركت خطورة تحالف السادات مع جماعات الإسلام السياسى التى كان يمثلها الإخوان المسلمون فى مطلع السبعينيات. وقتها شعرت– تدريجيا بالطبع- أن القيم المدنية للدولة الوطنية الحديثة التى أسهم فى صياغتها جمال عبد الناصر، مستلهما التراث الوطنى الحديث بكل تياراته،
مهددة بالتخريب المتعمد والانقلاب السافر عليها. وكان من الطبيعى أن أرى جانبا من ذلك فى بدايات الاحتقان الطائفى الذى أدى إلى حادث الخانكة سنة 1972 وحرق كنيسة بالقليوبية، وذلك فى السياق المتصاعد الذى أدى إلى محرقة الزاوية الحمراء فى يونيو 1981. وما بين الحادث الأول والمحرقة المخزية التى اغتيل فيها ثمانية وثمانون مسيحيا، سنوات شهدت محاولة أسلمة القوانين وصياغة المادة الشهيرة التى تؤكد أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، وهى المادة التى فرضها حلفاء السادات من الإخوان المسلمين، واستبدلوها بالمادة 149 الموجودة فى دستور 1923، والتى تنص على أن «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية». وكان ذلك كله تحت شعار «دولة العلم والإيمان» التى ضاع فيها العلم، وتحول الإيمان إلى نزعات تعصب دينى، أطاحت بقيم المواطنة ومعنى الوطن والعدل الاجتماعى والكرامة الإنسانية. أما الحرية التى تشدق بها السادات وبشر بها مع التعددية الحزبية فسرعان ما تحولت إلى استبداد سافر، كانت العقلانية المغدورة أولى ضحاياه، فالاستبداد السياسى هو الحليف الطبيعى للتعصب الدينى الذى يستبدل النقل بالعقل والتقليد بالاجتهاد والاتباعية المنغلقة بالعقلانية المفتوحة.
..................................................................ولم أكن أقبل ذلك كله، وأنا حفيد طه حسين الذى تكوّن علميا فى قسمه، ودرس التراث بمنهجه، فانحاز إلى المعتزلة وعقلانيتهم، وعرف ما كتب ابن رشد فى فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال، ولذلك بقدر ما رفضت تحالف السادات مع الجماعات الإسلامية، وتمسكت بنوع من اليسار الليبرالى أو الليبرالية اليسارية، كنت أرى ضرورة العودة إلى تراثنا التنويرى الحديث الذى بدأه حسن العطار وتلميذه رفاعة الطهطاوى فى السياق الذى يصل الطهطاوى بمحمد عبده بعلى ومصطفى عبد الرازق وطه حسين على السواء.
وكان ما شاركت فيه من أنشطة معارضة لسياسات السادات سببا فى طردى مع من طردهم السادات من الجامعات المصرية فى سبتمبر 1981. وعندما عدت إلى جامعة القاهرة، بعد سنوات من الغياب، لم يتغير موقفى الفكرى مما أصبح يطلق عليه الإسلام السياسى. وكنت أرى ضرورة استعادة الميراث التنويرى المصرى الذى أسسه مشايخ الأزهر الذين رفعوا لواء الصلة بين العقلانية والإسلام منذ حسن العطار إلى الشيخ شلتوت. وأعترف أن قراءة رفاعة هى التى قادتنى إلى التعمق فى فكر التنوير الأوروبى، مستخدما مبدأ «التحسين والتقبيح العقليين» الذى سبق أن استخدمه جدنا الأكبر رفاعة الطهطاوى وتحدث عنه فى كتابه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز».
ولذلك أرى أن أزمة الواقع السياسى الثقافى التى صنعتها السنوات الساداتية، وما ترتب عليها، هى التى دفعتنى إلى فكر الاستنارة الذى لازلت مؤمنا به إيمانى بقدرته على التجدد، فالاستنارة كالحداثة الفكرية والإبداعية التى أنتسب إليها أفق مفتوح على التجدد، ولذلك فهى قادرة على البقاء والإفادة من كل جديد أصيل.
ولم تحدث مفاهيم التنوير هزة واحدة فى الفكر العربى الحديث، وإنما أحدثت هزات، فهناك الهزة الأولى التى صنعتها كتابات رفاعة الطهطاوى وأبناء جيله الذى يمتد تأثيره إلى أفكار الإمام محمد عبده، وهى هزة قادها مشايخ الأزهر بالدرجة الأولى، وقامت على أساس قبوله كل ما لا يتعارض مع جوهر الإسلام فى تأويلاته الأقرب إلى العقلانية الاعتزالية التى تؤمن بمبدأ التحسين والتقبيح الاعتزاليين، وعلى أساس من قاعدة المصلحة. هكذا تقبل الطهطاوى فكرة «الدستور الحديث»، و»الدولة المدنية»، و»حرية المرأة»، و»الفصل بين السلطات»، وحق المواطنين فى اختيار النظام السياسى الأصلح لهم، واحترام الفنون الذى هو الوجه الآخر من الاهتمام بالعلوم، وقد تعلم رفاعة من مخالطة المرأة الفرنسية «أن عفة النساء لا تأتى من كشفهن أو سترهن، بل منشأ ذلك التربية الجيدة أو الخسيسة». وأعتقد أن الشيخ محمد عبده مضى فى الأفق العقلانى الذى سبقه إليه رفاعة. أعنى الأفق الذى جعله يرى أن للإسلام أصولا خمسة: الأول النظر العقلى لتحصيل الإيمان. والثانى: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض. والثالث: البعد عن التكفير. والرابع: الاعتبار بسنن الله فى الخلق. والخامس: قلب السلطة الدينية والإتيان عليها. هذه المبادئ الخمسة هى قراءة تنويرية للإسلام، وهى قراءة تصل ما بين عقلانية التنوير الغربى والدين الإسلامى، والنتيجة هى تأسيس تنوير إسلامى. وعلى أساس من مبادئ هذا التنوير يمضى الإمام بمعنى الاعتبار بسنن الله فى الخلق أو الكون إلى الاجتهاد الذى ينتهى به إلى ضرورة التأمل فى الكون لاكتشاف أسراره، وذلك بما يؤدى إلى فتح الأبواب المغلقة لاختراعات العلوم وغزو الفضاء من ناحية، فى موازاة التأمل فى إعجاز الخلق والجماليات الطبيعية، وذلك بما يؤدى– من ناحية موازية- إلى إباحة فنون التصوير والنحت وتقديرها لأنها تلفتنا إلى جميل صنع الله، كما جاء فى بيت أحمد شوقى:
تلك الطبيعة قف بنا يا سارى حتى أريك عجيب صنع البارى
وعندما نترك الهزة التى أثمرت ثمارها الطيبة عند مشايخ الأزهر من رواد الاستنارة، سنجد الهزات الأخرى التى أثمرت ثمارا موازية عند أفندية الاستنارة، ابتداء من أحمد لطفى السيد المؤسس الفكرى للأساس الفلسفى الذى قامت عليه الليبرالية المصرية، خصوصا فى توهجها الذى ظهر فى كتابات طه حسين، عندما كتب قائلا: «هذه الحرية التى نطلبها للأدب لن تُنال لأننا نتمناها، فنحن نستطيع أن نتمنى، وما كان الأمل وحده منتجا، وما كان يكفى أن تتمنى لتحقق أمانيك. إنما تنال هذه الحرية يوم نأخذها بأنفسنا، لا ننتظر أن تمنحنا إياها سلطة ما، فقد أراد الله أن تكون هذه الحرية حقا للعلم». وتعنى كلمات طه حسين إضافة مبدأ الحرية إلى مبدأ العقلانية الذى يتضافر معه فى كل فكر تنويرى. ولكن تضافر العقلانية مع الحرية كان يؤدى إلى مبدأ ثالث فى فكر طه حسين التنويرى، هو مبدأ العدل، سواء بمعناه المادى الذى يتصل بعدالة توزيع الثروة، أو بمعناه المعنوى الذى يتصل بعدالة توزيع المعرفة على أبناء المجتمع. وهو المعنى الذى جعل طه حسين يذهب إلى أن التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن. وكانت ثلاثية العقلانية والحرية والعدل تقترن، فى سياقها التنويرى بالإيمان بالنزعة الإنسانية التى كانت تعنى الكرامة الإنسانية، خصوصا فى بعدها الذى يؤكد التنوع البشرى الخلاق الذى يتحدث عنه العالم فى السنوات الأخيرة.
وأعتقد أن الهزة الأخيرة لآثار التنوير الغربى هى الهزة التى تصنع العلاقة المائزة لجهد أبناء جيلى. أعنى هذا الجيل الذى اقترنت نزعته التنويرية بنزعة تأصيلية، ترد النتائج إلى الأسباب، والثمار إلى الجذور، ومن ثم تبحث للتنوير عن أصول عربية تراثية تدعمه وتمنحه حق الوجود، وتجعله قادرا على أن ينطق بلسان عربى مبين، فالتنوير يقوم على أساس عقلانى لا معنى له بعيدا عنه، وإن المكانة الإنسانية المتميزة للعقل فى تراثنا الفلسفى العربى الإسلامى هى الأساس النظرى لأى فهم للتنوير، لا أستثنى من ذلك ميراث التنوير الغربى الذى لا يزال ممتدا فى فكر الفيلسوف الألمانى المعاصر هابرماس. ولا زلت أؤمن أن ميراثنا العقلانى هو الذى لا يجعلنا نشعر بالغربة حين نتوقف عند الأفكار التى أنتجتها حركة التنوير الأوروبية فى القرن الثامن عشر أو نفيد من أفكار هذا الفيلسوف أو ذاك من فلاسفة التنوير القدماء والمحدثين فى أوربا، ذلك لأن احترام العقل ومنحه الأولوية فى تأسيس المعرفة الإنسانية، يظل القاسم المشترك الذى يصل بين تراثنا وغيره. وهو أصل الإضافة التى أضاف بها التراث العربى إلى التراث اليونانى، وأصل ما انتقل من تراثنا إلى التراث الأوروبى الأحدث الذى أفاد من تراثنا العقلانى، قبل أن يضيف إليه، فى فعل تأسيسه فكر النهضة، وذلك منذ أن اقترنت السينوية (نسبة إلى الفيلسوف بن سينا) والرشدوية (نسبة إلى الفيلسوف الأندلسى القرطبى: ابن رشد) بتأسيس هذه النهضة.
فهل نحن نعيش فى مجتمع مستنير ترفرف عليه أو فيه رايات العقلانية والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية؟ أعتقد أن الإجابة ستكون بالنفى. فنحن نعيش فى مجتمع يعانى ما يقرب من نصف سكانه الأمية والحياة تحت خط الفقر، وتلك كارثتان تعرقل كل منهما مسيرة عجلة التنمية. وفوق هذه الكارثة ليست أبواب الاجتهاد مفتوحة بالدرجة التى تسمح بإنتاج عقول من طراز عقل الإمام محمد عبده أو حتى عقل الدكتور محمود زقزوق وريث دعوة الإمام محمد عبده إلى التجديد والتأصيل فى الأزهر نفسه، ذلك الأزهر الذى تنكر مشايخه ماضيه العظيم فى التجديد، وذلك حين استبدلوا بطريق التجديد الذى مضى فيه محمد عبده، ومحمود شلتوت، وعبد المتعال الصعيدى، وعلى عبد الرازق، ومصطفى عبد الرازق، ومحمد البهى، طريق التقليد الذى سمح لهم بالتحالف مع السلفية الوهابية، وأقنع بعضهم بعدم أخذ المسلم بدم الذمى، ورفع راية التكفير تحت مسميات مراوغة. ويزيد الطين بلة ما يحيط بنا من تيارات تعصب دينى تغلق أبواب العقل بالضبة والمفتاح. ويتساقط من أبناء شعبنا يوميا شهداء أبرياء تغتالهم رصاصات وتفجيرات الإرهاب الدينى الذى تمارسه جماعات الدواعش المتحالفة مع الإخوان انتقاما من شعب لفظهم فى الثلاثين من يونيو.
-2-
ولست فى حاجة إلى أن أذكر أن علوم الأزهر تقوم على توازن دقيق وتناغم بديع بين علوم النقل والعقل، وهما أشبه– أعنى العقل والنقل- بجناحى الطائر الذى يحلق به العلم الأزهرى إلى فضاءات العالم القديم والحديث فى آن. ولذلك رأينا رفاعة الطهطاوى ينفتح بعلوم العقل على الدستور الفرنسى وعلى حرية المرأة فى باريس وعلى أزياء حديثة وعلى مبررات دينية لوجود الأزياء الحديثة وإلغاء السفور، وكل ذلك بسند من العقل وانطلاقا من تحسين ما هو حسن وتقبيح كل ما هو قبيح. وبهذه النتيجة انتقل رفاعة الطهطاوى بوطنه من التخلف إلى التقدم، كما انتقل أحفاده بالوطن نفسه من جهالة النقل وحدها إلى انفتاح أفق العقل الذى لا يتناقض مع الشرع، إيمانا بأن الحق لا يضاد الحق. وهذا هو عين ما فعله تلميذه على عبد الرازق فى كتابه «الإسلام وأصول الحكم» عندما فتح للمسلمين أبواب اختيار مذاهبهم السياسية فى الحكم بحرية مطلقة لا تحول بينهم وهذه الحرية قيود من أى نوع نقلى يدلسه أحد عليهم، وذلك هو الأمر نفسه الذى مضى فيه الشيخ شلتوت، عندما أكد أن الإسلام لم يكن يعرف غير المسلم، وأنه لا يفرق بين شيعى أو إباضى أو أشعرى أو معتزلى، ولذلك قاد المركب الخطر للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وأصدر فتواه الشهيرة بجواز العمل بالفقه الجعفرى، وهو فقه الإمامية الاثنى عشرية من الشيعة، ولم ير بين المسلمين السنة وغيرهم من المسلمين فارقا يؤدى إلى التمييز بين هؤلاء وهؤلاء، ورأى فى الإسلام ما يبيح له أن يصبح إسلام القرن العشرين والقرن الحادى والعشرين الذى لم يره، وهو المبدأ نفسه الذى صار عليه تلميذه محمود زقزوق الذى كم أود أن أتوقف وقفات تفصيلية عند كتابه الأخير «تأملات فى أزمة الفكر الإسلامى المعاصر: نظرة نقدية»، وهو كتاب لا أظن أن أزهريا يجرؤ على أن يكتب مثله. ولحسن الحظ يجمع الدكتور محمود زقزوق المتمكن من علوم النقل وعلوم العقل ما يتيح له أن يحلق فى فضاء الفكر الإسلامى بجناحين يحملانه إلى آفاق أوسع لم يجرؤ أن يصل إليها أحد مثله حتى بما فيهم شيخ الأزهر نفسه، ذلك لأن شيخ الأزهر قد حبس نفسه للأسف ما بين قيود الأشعرية التى تسعى إلى التوسط دائما بين الدين والدولة أو المتريدية التى لا تخرج عن آفاق أهل السنة الذين يميلون إلى أهل النقل من ناحية موازية. وأعتقد أن كتاب الدكتور محمود زقزوق، وهو عضو بهيئة كبار العلماء بالأزهر ووزير الأوقاف الأسبق، هو كتاب لم يرض عنه أغلب أعضاء هيئة كبار العلماء، هؤلاء الذين يبررون خوفهم من التجديد بأن علوم الأزهر هى التى أنتجت المجددين العظماء، ناسين أو متناسين أن علوم الأزهر هذه تجمع بين النقل والعقل، وأن الاتجاهات العقلانية ينبغى أن تتناغم مع الاتجاهات النقلية كى تحلق إلى آفاق الفكر الإسلامى المعاصر، فاتحة كل الآفاق المغلقة وكل الأبواب الخاصة بالاجتهاد، مؤكدة أن المسئولية فى الإسلام هى مسئولية فردية بالدرجة الأولى، وأن الدين هو علاقة بين العبد وربه «وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه»، وأنه مدعو إلى الاجتهاد كى يرتقى بأمور حياته إلى ما أراد الله لها أن تكون ولن يكون ذلك بخوف من إجماع أو بمخالفة لجماعة، وإنما بالتزام حرية العقل الإنسانى الذى يدعو إليه محمود زقزوق فى كتابه، وبالتأكيد فإن الطابع الإنسانى للفكر الإسلامى الذى يؤمن به محمود زقزوق إيمانا عميقا هو أن الفكر الإسلامى المعاصر بوجه عام، وفكر هيئة كبار علماء الأزهر بوجه خاص، إنما هو فكر فى أزمة، وأنه فكر منغلق على نفسه ومقيد بقيود التقليد والنقل والجمود والخوف من الاجتهاد، ولذلك وصل حال الفكر الإسلامى على أيدى هيئة كبار العلماء إلى الدرك الأدنى من التقليد، فاستحقوا أن يثور عليهم كل المسلمين الذن يريدون أن يعيشوا فى دولة إسلامية حديثة، إنسانية ومدنية ومتحضرة، وأن يؤمنوا كما علمهم عباس محمود العقاد أن التفكير فريضة واجبة، وأن النبى الكريم، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، وأننا- نحن المسلمين- لم نجدد هذا الدين بواسطة علمائنا منذ قرون وقرون، وأننا اخترنا بفضلهم طريق التقليد والعودة إلى ماض متخلف بدل طريق التجديد والنظر إلى مستقبل مشرق. وكانت النتيجة أن انبثق هؤلاء الإرهابيون مشوهى الفكر، لا يعرفون عن الإسلام أصوله الصحيحة، ويجهلون كل الجهل أن يطيروا بجناحيه الحقيقيين، وهما العقل والنقل كى يصلوا إلى آفاق المستقبل الحر الذى لم ينعم به المسلمون فحسب، بل أبناء الإنسانية كلها. فالإسلام هو دين الإنسانية، ودعوة الإنسانية تحترم اختلاف الأديان كما تحترم اختلاف الثقافات، إيمانا بأن الإسلام يحترم التنوع الثقافى الخلاق ولا يرفض التنوع الحضارى الأصيل، ولذلك فقد حرر الإسلام المسلمين من جمود التقليد والنقل، وفتح لهم آفاق العقل لكى يتأملوا فى فضاءات الكون اللامحدودة ويمارسوا دورهم الخلاق فى الإبداع الحضارى فى عالم اليوم مستعيدين الثقة فى أنفسهم، جاعلين من أنفسهم حافزا على مستقبلهم الواعد، فللإسلام دور لا ينكر فى تطوير الفكر الحضارى لدى المسلمين فيما يقول الدكتور محمود زقزوق.
أما التنوير الذى يتهم بعض الجامدين دعاته ومعتنقيه بالكفر، فإن الدكتور محمود زقزوق يلقى برأيه الفصل مؤكدا معنى العقل الإنسانى والعلاقة الحتمية بين الإسلام والتجديد والاجتهاد، ناقدا مظاهر الجمود فى الفكر الإسلامى المعاصر لكى يصل بنا إلى العلاقة بين الفكر الإسلامى والتيارات المعاصرة، واقفا وقفة خاصة عند أزمة النقد فى فكرنا المعاصر متنقلا منها إلى قضية التنوير التى يراها بمثابة «بضاعتنا التى ردت إلينا»، واصلا بينها ومبدأ أن الحق لا يضاد الحق، وأن صلة التنوير بالعقلانية، سواء بمعناها الاعتزالى أو حتى بالمعنى الذى قصد إليه الفيلسوف الألمانى كانط عندما تحدث عن التنوير من حيث هو استخدام للعقل الإنسانى فى شجاعة كاملة ودون وصاية من أي سلطة، غير سلطة العقل، وهو معنى لا يختلف جذريا عن معنى التنوير الإسلامى الذى يبدأ من مفهوم العقل من حيث هو وكيل الله عند الإنسان كما يصفه الجاحظ، أو نموذج من نور الله كما يصفه الغزالى. ولذلك لم يكن من الغريب أن يصفه محمود زقزوق بأن الإسلام فى حقيقته «يعد رسالة تنويرية إلهية» تهدف إلى بناء الإنسان بناء سليما حتى يستطيع أن يؤدى الدور المنوط به فى هذا الوجود على أكمل وجه. وهو دور ينبنى على العلم الذى يفتح للإنسان آفاقا واسعة تؤهله لعمارة الكون وصنع الحضارة فيه. وهذا أمر لن يتحقق إلا بتمكين العقل من ممارسة وظائفه التى أرادها الله. ومن هنا كان حرص الإسلام شديدا على تمهيد الطريق أمام العقل، وإزالة كل العقبات التى تعوقه عن ممارسة نشاطاته. ومن أجل ذلك اتجهت تعاليم الإسلام إلى تحطيم هذه العوائق حتى يشق العقل طريقه إلى الفهم الصحيح والتفكير السليم. ومن المؤكد أن المبادئ التى يطرحها الفكر النقدى للدكتور محمود زقزوق فى كتابه الأخير، خصوصا ما يتصل منها بالتلازم بين العقل والدين، والتلازم بين التنوير والدولة المدنية بوصفها الدولة القائمة على العدل الذى يقره العقل والدين. ليست ببعيدة عن مبادئ المواطنة التى يتحد فيها المواطنون تحت مظلة نظام الحكم الذى يختارونه اختيارا ديموقراطيا حرا من كل قيد.
والحق أن كتاب الدكتور محمود زقزوق «تأملات فى أزمة الفكر الإسلامى المعاصر» يستحق وقفات ووقفات، فهو فى تقديرى أهم وثيقة فلسفية صدرت فى ربع القرن الأخير. وهو وثيقة تعد فى ذاتها إدانة بالغة لهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، حيث إنها تمضى فى درب غير درب أغلبهم، وإنها تجمع ما بين جناحى النقل والعقل لتحلق إلى أجواء من الفضاء التى لم يصل إليها أغلب هؤلاء الذين يقبعون فى هيئة كبار العلماء، عاجزين عن التحرر من القيود التى فرضوها على أنفسهم، ولم يفرضها أحد عليهم بما فى ذلك الدين الذى ضيقوه علينا وعلى أنفسهم، فشلوا قدراتهم العقلية وعاقوها عن الانطلاق فى طريق التجديد، وحاولوا تكبيل قدراتنا العقلية كى لا نمضى دونهم إلى آفاق المستقبل. ولكن آفاق المستقبل باقية مغوية تدعونا إلى أن نبتكر الجديد، وأن نضع حلولا لكل ما عجزوا عن وضعه من حلول، وأن نلتزم بجناحى الفكر الدينى كى نؤكد مبادئ الإمام محمد عبده عن تقديم العقل على الشرع عند التعارض بالتأويل. فالتأويل مركبة المستقبل التى تحقق التوازن المطلوب بين العقل والنقل، وذلك بالقدر الذى تحقق الأحلام على أرض الواقع، رافضة كل ما فيه من قيود تحول بين الإنسان وحقه فى العدالة، وبين الإنسان وحقه فى المساواة أو المواطنة، وبين الإنسان وحقه فى وطن حر ينال كل مواطن فيه حقوقه الدستورية بقدر ما يؤدى واجباته التى تجعل منه إنسانا متحضرا فى دولة مدنية حديثة، عمادها العقل والعدل والحرية وانفتاح الأفق العقلى إلى ما لا نهاية، بل بما يدعونا ألا نخاف من الاجتهاد وأن نجتهد بقدر استطاعتنا وبقدر احتياجاتنا، وذلك دون خوف من أحد. فالاجتهاد حق، بل إنه حتى الخطأ فى الاجتهاد حق يستحق الإثابة. هذا ما تعلمناه من حديث الرسول، صلى الله عليه وسلم نفسه، كما تعلمناه من جسارة تأملات الدكتور محمود زقزوق فى كتابه الجسور»تأملات فى أزمة الفكر الإسلامى المعاصر» الذى لا أشك أنه سيغضب الكثيرين من هيئة كبار العلماء بالأزهر الذين لا يمتلكون الجرأة ولا الأدوات التى تجعلهم يذهبون إلى هذا المدى من الاجتهاد الذى وصل إليه أستاذهم وأستاذنا محمود زقزوق.
ولا أظن أن أحدا بعد كتابات عباس محمود العقاد، خصوصا كتابه «التفكير فريضة إسلامية»، قد جعلنى أتوقف مدركا أن هناك من العرب المحدثين من يقفون إلى جانب أمثال هابرماس من الفلاسفة المعاصرين لكى يفتحوا لنا – نحن المسلمين- آفاقا فى التنوير والتقدم. ولذلك لا أتردد فى تقديم خالص التحية والثناء على كتاب الدكتور محمود زقزوق الذى أكمل فكرى، وأضاف إلى معارفى، ووصل بأفكارى عن التنوير إلى هذا الحد الذى يستحق إظهار العرفان والامتنان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.