بدأ الأمر فى أواخر العام الماضى، عقب ندوة مشتركة ما بين مؤسسة عبد الحميد شومان الثقافية فى عمان- الأردن ومؤسسة العويس الثقافية- دبى. وكان الموضوع عن «مواجهة تاريخ الأدب»، وقد أوكل إلىّ أن أتحدث عن طه حسين وتحديات التاريخ الأدبى، وكتبت موضوعا عرضته فى هذه الندوة، ولكنى قبل أن أصل إلى عمان، وأنا فى الطائرة قرأت فى الصحف الأردنية التى تم توزيعها علينا خبرا عن اغتيال ناهض حتر المثقف الأردنى (صباح الأحد 25 سبتمبر 2016)، فى اليوم السابق على وصولنا، بواسطة أحد السلفيين الذين لم يترددوا فى إطلاق عدد من الرصاصات على مثقف أردنى لا ذنب له إلا أنه عرف بمعارضته للسلفية الوهابية وانتشارها فى الأقطار العربية بوجه عام، وفى الأردن- موطنه بوجه خاص. ولم أتوقف كثيرا عند ديانة المقتول، وهى المسيحية، وديانة القاتل التى هى إسلامية زعما، بقدر ما توقفت عند الدلالة التى ترتبط بمبدأ الاغتيال لمجرد الاختلاف فى الرأى أو الفكر وغياب المبدأ الإسلامى الأصيل الذى ينص على المجادلة بالتى هى أحسن. ولا أزال أرى فى اغتيال المثقفين سلسلة من الأفعال الإرهابية التى بدأت فى الجزائر، ربما قبل مقتل عبد القادر علولة المثقف المسرحى، والتى امتدت بعد مقتله لتشمل أمثال فرج فودة ثم محاولة اغتيال نجيب محفوظ فى مصر، فضلا عن بقية السلسلة التى توالت بعد ذلك إلى أن دخلنا الكابوس المرعب الذى لا نزال نعيشه فى أفعال الاغتيال الإرهابى الذى لا يتورع عن نسف الكنائس لا لشىء إلا انتقاما من المسيحيين الكفار الذين يرى الإرهابيون من المسلمين أن عليهم أن يحاربوهم ويغتالوهم، استنادا إلى قاعدة شرعية فاسدة مؤداها أن المسلم لا يؤخذ بدم ذمى، فدم الذمى حلال للمسلم الذى هو أعلى مكانة من الذمى بالقطع، ما ظل المجتمع يعيش تحت شعارات قديمة، ويحكمه حكم دينى وليس حكما مدنيا. أعنى أن هؤلاء القتلة لا يؤمنون بأنهم يعيشون فى دولة مدنية وأن شيوخهم الذين يدفعونهم إلى مثل هذا الإرهاب لا يؤمنون بالدستور أو القانون الذى يحدد حياة الناس وينظمها فى ظل مجتمعاتنا الحديثة. وقد شاهدنا منهم الكثير، ولا نزال، ينادون بالتمييز بين أهل الذمة من المسيحيين وغير المسيحيين والمسلمين الذين ينقسمون بدورهم إلى فرق أغلبها ضالة، مقابل فرقة واحدة ناجية، هى الفرقة التى تنتسب إلى من يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة، ويعتبرون أنفسهم الفئة العليا والأكثر قربا إلى الله مقابل الفرق الضالة المضلة التى هى أبعد ما تكون عن الله، ومن ثم تستحق العذاب الذى يصل إلى درجة الاستئصال، كى تخلو الأرض المسلمة من جذور الشر والفساد والضلال على السواء. ومنذ أن انتشر الإسلام الوهابى، ونحن نسمع أصوات هذه الفئات التى يمكن أن نصفها بالسلفية الوهابية، والتى تعمل بدعم لا حدود له من أموال النفط الوهابية، وذلك إلى الدرجة التى تروع الآمنين، والتى تهدف إلى القضاء على المخالفين والمغايرين والمختلفين، سواء كانوا من أهل الذمة أو من النصارى أو حتى المسلمين. فلا أمان لهؤلاء جميعا ما ظلوا مغايرين كل المغايرة ومخالفين كل المخالفة لمذهب الفرقة الناجية التى لها وحدها الحق فى توجيه المجتمع وفرض رأيها حتى على ولى الأمر، ومن ثم نسف ما يسمى بالدستور والقوانين الوضعية، فلا حاكمية إلا لله، ولا قوانين إلا لتأويلات وأحكام مشايخ الإرهاب التى تحل محل القوانين والدساتير الوضعية التى هى وحدها التى ينبغى أن ينبنى عليها المجتمع. وللأسف، فإن هذه الأفكار وما يشابهها هى الأفكار التى لا يزال يدرسها أبناؤنا وأحفادنا فى المعاهد والكليات الأزهرية، سواء فى مصر أو خارجها، حيث توجد المعاهد الدينية التى تزيد الإرهاب إرهابا والتطرف تطرفا. والكارثة أن الدولة التى تصف نفسها بأنها دولة مدنية حديثة لا تزال تتحالف مع هذه الفئات وترى إمكانا لمستقبل من العيش المشترك بين صيغتها الوضعية فى الحكم والصيغة الدينية التى تتأولها هذه الجماعات التى لا تعرف سوى الضدية الحدية ما بين المنتسبين إليها بوصفهم من الفرقة الناجية مقابل أغيارهم من الذين ينتمون إلى الفرق الضالة المضلة، وفيها من يؤمنون بالدولة المدنية أو من ليس بمسلم أصلا أو غير منتسب إلى أبناء السنة والجماعة، سواء كان منتسبا إلى الشيعة بأنواعها أو الإباضية أو الأزارقة أو غيرها من الفرق الإسلامية التى عرفناها عبر أزمنة التاريخ الإسلامى. هذا هو ما شعرت به عندما قرأت الجرائد الأردنية فى اليوم التالى لاغتيال ناهض حتر الكاتب الأردنى الذى اغتاله سلفى وهابى أمام قصر العدل في منطقة العبدلى (وسط عمان)، إثر نشره رسما كاريكاتيريا على صفحته فى الفيسبوك فاعتُبر أنه «يمس الذات الإلهية»، وما دار بخلدى منذ أشهر عديدة، عندما شعرت بالغضب والأسف على هذا القتيل الذى ضاع دمه هدرا نتيجة شيوع الأفكار الإرهابية على امتداد العالم الإسلامى. ويبدو أن هذه المشاعر التى تراكمت داخلى هى التى دفعتنى إلى أن أستجيب لأصدقائى فى مركز شومان فى عمان، عندما طلبوا منى أن أخصهم بموضوع محاضرة مستقلة، فوجدت نفسى أقول لهم دون تردد، سيكون موضوع المحاضرة بعنوان: «نحو نظرية عربية للتنوير». والحق أننى عندما قلت هذا العنوان كنت مستجيبا استجابة عفوية لما دار فى خاطرى من خواطر احتجاجية على هذا الإرهاب الذى لا يريد أن يتوقف على امتداد العالم العربى. وبالفعل اتفقنا على أن يكون هذا العنوان هو عنوان محاضرتى التى سوف ألقيها فى المركز فى يوم الاثنين الموافق 10/4 من هذا الشهر. ومرت الأيام، وجاء موعد مغادرتى القاهرة إلى عمان، وكان يوم الأحد الموافق التاسع من هذا الشهر. وفى صباح هذا اليوم المشؤوم عرفت، قبل أن أغادر بيتى، بأن هناك تفجيرين لكنيستين فى الإسكندريةوطنطا. وقد روعنى الخبر ولم أكن مستعدا لأن أستمع فى صبر إلى تفاصيل هذه الكارثة التى تجاوزت كل حد يمكن للعقل أن يتقبله. فهذه المرة لم يكن التركيز الإرهابى على كنيسة واحدة، وإنما على كنيستين متباعدتين فى المسافة المكانية، لكن ما يجمعهما معنويا هو التهديد والتحذير والترويع. فأما التهديد، فهو موجه إلى كل المسلمين المعتدلين والمسيحيين الوطنيين بأنهم فى دائرة الخطر والموت، ما ظلوا على عنادهم ودعمهم لهذه الدولة القائمة التى هى دولة ضلال وإضلال. وأما التحذير، فإنه موجه إلى كل من يخالف أفكار أصحاب هذه الفرقة الناجية، بأن مصيرهم الموت. وأما الترويع، فهو تقديم النموذج الإرهابى الذى يبث الرعب فى النفوس ويمهد الطريق للإذعان وتقبل أفكار هذه الفرقة الناجية التى تضع نفسها فى موضع أرقى وأعلى من بقية الفرق الإسلامية. والحق أننى شعرت بالصدمة الهائلة التى جعلتنى أعيد النظر فى كل ما فعلناه إلى اليوم؛ أمنيا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا وتعليميا وفكريا على السواء، فالمؤكد أن هذا النوع من الإرهاب ما كان يمكن أن يصل إلى هذا الحد وينجح فى تدمير كنيستين تتباعدان تباعد الإسكندرية عن طنطا، إلا لأخطاء جذرية ظلت تتراكم، ولا تزال، عبر عقود إلى أن وصلنا إلى هذه النتيجة المخيفة التى ينبغى أن تكون بمثابة إنذار أخير لكل الناس فى المجتمع المصرى والعربى على السواء. أعنى التى ينبغى أن تفرض علينا إعادة النظر فى النظام السياسى الذى لا يزال يحكمنا بمسمى «الدولة المدنية الديموقراطية الحديثة»، وذلك بالقدر الذى يفرض علينا إعادة النظر فى البناء الثقافى العام والخاص لهذه الدولة التى نزعم أنها مدنية. وقس على ذلك ضرورة مراجعة السياق والمبنى الاجتماعى لهذه الدولة التى أخذت تشهد تفاوتا طبقيا حادا ينذر بالخطر، خصوصا حين يتكاثر الذين لا يجدون ما ينفقون مقابل الذين يجدون ما لا ينفقون، إذا جاز لى أن أستعير هذه الجملة من أحد كتب طه حسين، وهو كتابه «المعذبون فى الأرض». وأخيرا هناك الجانب الثقافى، وهو الجانب الذى كنت قد اتفقت مع مؤسسة شومان أن أحاضر فيه، والذى اخترت عنوانا له: «نحو نظرية عربية للتنوير». وقد اخترت هذا العنوان لأننى لا أزال أؤمن بأن للثقافة دورا بالغ الأهمية والحسم فى مواجهة الإرهاب. نعم أعترف بأن المواجهة الأمنية حاسمة ومهمة، لكنها لن تكون فعالة أبدا، إلا إذا كانت مستندة على مواجهة ثقافية شاملة؛ فالإرهاب فى آخر الأمر هو انحراف فكر ومشاعر، ولا يحارب الفكر إلا بالفكر ولا تنصلح المشاعر إلا بالإبداع والفن، وفى موازاتها تعليم مدنى حديث، ولذلك فإن المواجهة الثقافية لا تقل أهمية قط عن المواجهة الأمنية أو غيرها من المواجهات، ومن حسن الحظ أن لدينا مشروعا ثقافيا متراكما عبر الأجيال، منذ عصر الشيخ حسن العطار (1766- 1835) شيخ الجامع الأزهر، الذى أهدى لمحمد علي، مؤسس الدولة المصرية الحديثة، تلميذه رفاعة رافع الطهطاوى (1801- 1873)، لكى يرسله إماما على المبعوثين الذين ذهبوا إلى فرنسا، فتفوق الإمام الشاب على أعضاء البعثة، ونجح نجاحا مؤزرا فى معرفة جوانب التقدم التى رآها لازمة لوطنه المتخلف، وكتب عن ذلك كتابه الرائع «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» الذى طبعه فى المطبعة الأميرية فى بولاق سنة 1834. وفى مقابل رفاعة الطهطاوى فى مصر، كان هناك «خير الدين التونسى» (1820- 1890) فى تونس الذى بدأ دورا يشابه دور رفاعة الطهطاوى وفى موازاته على السواء، فنشر كتابه «أقوم المسالك فى معرفة أحوال الممالك» سنة 1867. وكان كتابا خير الدين التونسى ورفاعة الطهطاوى هما فجرا الكتابة فى التنوير وعن التنوير، أى كل ما يؤسس ثقافيا وفكريا لتأصيل الدولة الحديثة. وكانت جهود هذين العلمين فى موازاة جهود بطرس البستانى (1819- 1883) الذى كان أول من اهتم بتعليم المرأة وصياغة صورة جديدة لزمن قادم بالتقدم. هؤلاء الثلاثة أعتبرهم الآباء الأوائل المؤسسين لحركة التنوير العربية التى بدأت منهم فى امتداد صاعد عبر الأقطار العربية الممتدة من الشام إلى أقصى المحيط الأطلسى واستمرت عبر الأجيال المتتابعة، بعد هؤلاء الرواد؛ لتبشر بكل ما نسميه أنوار التقدم أو العصر الذهبى للفكر العربى الحديث أو أنوار التنوير التى تعمل على تحرير العقل العربى، والتى لم تتوقف رغم كل العوائق التى لا تزال تواجهها إلى اليوم. وكان من نتيجة هذه المحاولات المتتابعة ما أسميه بتشكيل أو صياغة «نظرية عربية فى التنوير» تصل ما بين رفاعة الطهطاوى وآخر ممثلى التنوير فى الأزهر، وهو الدكتور محمود زقزوق الذى أصدر أخيرا كتابه «تأملات فى أزمة الفكر الإسلامى المعاصر: نظرة نقدية»، ويرى فيه أن: «التنوير بضاعتنا التى ردت إلينا»، وهو تعبير سليم إلى أبعد حد، ذلك لأننى أحد الذين ينادون بأن حركة التنوير حركة عربية الأصل، وأنها تبلورت فى النزعات العقلانية التى عرفها الفكر العربى القديم، والتى ضمت المعتزلة إلى جانب فلاسفة العقل العظام الذين كان آخرهم ابن رشد الذى تُرجمت كتبه، مع كتب ابن سينا إلى اللاتينية، وكانت بمثابة هدية الفلسفة العربية إلى الفكر الأوربى الذى استعان بها لتأسيس نهضته الحديثة. ولذلك، فعندما أقرأ، اليوم، تعريف كانط الفيلسوف الألمانى للتنوير على أنه «استخدام العقل فى شجاعة»، ودون أى عوامل توجيه خارجية أو دون وصاية من أحد، مهما كانت سلطته، فإننى أجد نفسى غير بعيد عن مثل هذه الدعوة لتحرير العقل، وأعثر فى تراثى على ما يدعمها ويجعلنى أؤمن بأن تراثى العقلانى كان هو الأصل فى تأسيسها وتأصيلها. ولذلك أجد كل الحق فى ما يقوله الدكتور محمود زقزوق من أن التنوير الغربى هو بضاعتنا التى ردت إلينا، ولكنى لا أتوقف عند هذا الحد فحسب، بل أضيف إليه الجهود العربية المتراكمة من الآباء المؤسسين لفكر الاستنارة إلى اليوم، حيث تتتابع جهود الشباب المسلم المرتبط بعقلانية إسلامية جديدة، إسهاما فى تواصل حركة استنارة جديدة، تأخذ من الماضى ما تضيف إليه من تطلعات المستقبل لمواجهة أخطار الحاضر، إيمانا من هذا الشباب الجديد أن أساتذتهم قد بدأوا من القرن التاسع عشر بظروفه التاريخية، وأنهم يبدءون من القرن الحادى والعشرين بشروطه وتحدياته الخطرة المهددة لوجود الدين الإسلامى نفسه. وبهذا المعنى نكون أمام مشروع نظرية عربية للتنوير، بدأت برواد، ظلوا يمهدون ويؤسسون لفكر التنوير وثقافته، منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى، فى السياق التحررى الذى أدى إلى ثورة 1919 فى مصر، وهى الثورة التى أورثتنا شعارات «الدين لله والوطن للجميع»، و»وحدة الهلال مع الصليب». وقد ظلت هذه الشعارات فاعلة، فى سياق صاعد إلى هزيمة 1967 ومحاولة مشروع الدولة الدينية (السلفية الوهابية) وراثة الدولة القومية المدنية (والتسلطية فى الوقت نفسه). وكان ذلك فى سياق سرعان ما شهد قيام الجمهورية الإسلامية فى إيران على أنقاض الدولة الشاهنشاهية الاستبدادية سنة 1979. ومنذ ذلك الوقت حلت دعاوى الدولة الدينية محل أشكال الدولة المدنية (التسلطية) إلى أن جاء الربيع العربى الزائف، ممتزجا بمحاولات إقامة دول دينية، تملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا. ولكن لم تتوقف الطليعة القابضة على جمر الاستنارة عن المقاومة، وعن فتح آفاق الاجتهاد فى ملفات: التنوير والدولة المدنية، والتنوير ما بين العقلانية والعلم، والتنوير وعدالة توزيع كل من الثروة الوطنية والمعرفة الإنسانية، والتنوير ومناهج التعليم، والتنوير واحترام الأديان، والتلازم بين نشر التنوير ونشر أفكار العدل والحرية فى المجتمع، والتنوير والمواطنة، ومن ثم تحديث الفكر وأنظمة الدولة على السواء...إلخ. هذه الموضوعات وغيرها أصبحت موضوعات حوارات أو تحديات جديدة مطروحة على النخب الثقافية التى لا تزال مؤمنة بأهمية الدين فى دولة الحداثة والمستقبل العلمى الواعد والمتقدم. وهى إشكالات تصنع كيان ما أسميه «نظرية عربية للتنوير». وهى نظرية فى حال من الصنع أو التشكيل، يدفعنا إليها هوان الدولة المدنية على حكوماتها، وغياب العدل والحرية، وتحول الدين إلى إرهاب كونى لا يكاد ينجو منه أحد. ولقد كان هذا وغيره بعض ما كان فى ذهنى عندما طرحت أفكارى «نحو نظرية عربية للتنوير» على النخبة التى يمثلها جمهور مؤسسة عبد الحميد شومان الثقافية فى عمانبالأردن. و يبقى السؤال عن حدود هذا المشروع وعن أبعاده وآفاقه واحتمالات استمراره وانتشاره بما يضمن له القوة، ومن ثم القدرة على مواجهة وهزيمة المشروع الإرهابى الذى ينبع من أفكار سلفية وهابية، تبدأ بعباءة ابن تيمية وتنتهى بما يشبه مدافع هتلر أو غدارة موسولينى، دون تمييز فى التعصب العقلى، وما ينتج عنه من إرهاب فكرى سرعان ما يتحول إلى إرهاب مادى نرى آثاره المدمرة حولنا ليس ما بين طنطاوالإسكندرية فحسب، وإنما على امتداد الأراضى العربية والإسلامية، بل امتداد الكرة الأرضية كلها، فنحن فى عصر تعولم فيه الإرهاب الدينى، وأصبح الإرهاب الإسلامى- للأسف- يهدد العالم كله ويستعدى العالم كله على الأمة الإسلامية بدون حق وبلا جريرة لم يرتكبها المسلمون المعتدلون، بل يرتكبها مسلمون متعصبون يحسبون أنفسهم الفئة الناجية وحدها، مقابل غيرهم الذين يضعونهم فى كفة الفرق الضالة أو المضلة التى ينبغى أن تستأصل، كما حسب هؤلاء المجرمون الذين فجروا كنيستى طنطاوالإسكندرية، فلم يصيبوا قلوب المسلمين وحدهم فى مصر، بل قلوب أبناء العالم المتحضر الذى يعرف أن من قتل إنسانا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا فى كل مكان. وإيمانى الذى لا أزال عليه هو أن تأسيس نظرية عربية للتنوير، فى موازاة تأصيل حضور حقيقى لدولة مدنية، ديموقراطية حديثة حقا، هما الجناحان اللذان سيحلقان بنا صوب المستقبل الواعد بالحرية والعدل. وفى هذا الهدف، وحوله، وصوبه، فليتنافس المتنافسون والحالمون بمستقبل يخلو من كل أشكال التمييز الدينى والاجتماعى والجنسى، كى تتأسس ثقافة الحوار لا القمع، وقبول الاختلاف وليس فرض الإذعان، واحترام ثقافة التنوع البشرى الخلاق وليس ثقافة القمع التى لا تريد حضورا مغايرا أو مخالفا لها.