أكتب من جديد عن ثورة يناير بعد أن انتهى شهر يناير. شهر يناير انتهى لكن الثورة لم تنته، والأسباب التى أشعلتها مازالت قائمة، والشعارات التى رفعتها لم تتحقق بعد، والطريق لتحقيقها طويل ممتد، والسنوات الست التى مرت على الثورة حتى الآن لم تطو صفحتها إلا فى أوهام أعدائها الذين يريدون أن يحولوها إلى ماض نتذكره مرة واحدة فى العام ثم ننساه! الصمت أو النسيان سلاح الثورة المضادة الذى يلجأ إليه أعداء يناير، حتى نكف عن طلب الحياة الحرة الكريمة، ونغرق فى مشكلاتنا ومشاغلنا اليومية فلا نتحدث إلا عن صور الفساد، وتراجع مستوى الخدمات العامة، ونقص السلع، وارتفاع الأسعار عما كانت عليه قبل الثورة التى تصبح بهذه المقارنات قضية خاسرة يحق للبعض أن يجعلوها مؤامرة أجنبية علينا أن نتبرأ منها، وربما تستر بعضهم بالولاء ليونيو حتى يتمكنوا من اغتيال يناير! وأنا فى هذه المقالة لا أفعل إلا أن أخرج على هذا الصمت المريب، وأدعو لاستحضار روح يناير، واستئناف السير فى طريقه، لنحقق الشعارات التى رفعناها، ونبلغ الغايات التى سعينا إليها، وقد طمأننى أن أقرأ فى الأيام الأخيرة من جديد آراء وأنباء عن يناير أكدت لى أن الثورة لم تنته بنهاية الشهر، وأنها حاضرة لدى الكثيرين من المشتغلين بالكتابة والسياسة، ولاتزال مطلبا حيويا ملحا علينا أن نجتهد فى تلبيته بالفكر والعمل، بالفكر الذى تتحول به الثورة من رد فعل إلى فعل، من مجرد احتجاج غاضب على ما وقع أو على ما يقع، إلى تصور لمستقبل أفضل، إلى فكر مستنير، وقيم رفيعة، وأن يتحول هذا الفكر وهذه القيم إلى خطط وسياسات يتبناها المصريون، ويحولون بها أحلامهم وتصوراتهم إلى واقع حى مشهود. حين نستحضر روح يناير نستحضر وعينا بأنفسنا، إننا أمة عظيمة قادرة، لها أحلامها وأمانيها وتاريخها وحضارتها ومطالبها وإرادتها التى جمعتها كما لم تجتمع أمة من قبل. نحن تسعون مليونا، فينا الأطفال والشيوخ، وفينا غير القادرين على الحركة، أما القادرون فقد خرجوا بالملايين وعشرات الملايين وواجهوا قوات النظام بصدورهم العارية، وفرضوا إرادتهم، واستعادوا وعيهم بأنفسهم، هذا الوعى الذى غيب طويلا، وزيف بفعل الماضى المظلم الذى عشناه، والثقافة المعادية التى تلقيناها. لقد عشنا أكثر من ألفى عام تحت حكم الغزاة الطغاة الذين هدموا دولتنا، واغتصبوا ثروتنا، ودمروا ثقافتنا، وفرضوا علينا ثقافتهم التى جعلتهم فى نظرنا شعوبا مختارة، وجعلتنا فى نظر أنفسنا أرقاء أذلاء، نذم أسلافنا، ونتبرأ من تاريخنا، ونكره أنفسنا، والأمثلة كثيرة تبدأ من التوراة حتى تصل إلى شيخ الأزهر عبدالله الشرقاوي، مرورا بما نسب لعمرو بن العاص، وما ذكره المقريزى وغيره. بعض المؤرخين يروون أن عمرو بن العاص تحدث عن مصر فقال: «أرضها ذهب، ونيلها عجب، ونساؤها لعب، وهى لمن غلب»! فإذا لم يكن هذا الكلام لعمرو، وإذا كان قائله مجهولا كما يرى البعض، فالكلام نفسه معروف شائع يردده بعض خطباء مساجدنا وهم ينددون برذائلنا وخطايانا، والذى نجده فى هذه العبارات نجده فى أقوال أخرى يرويها المقريزى عن مصر فيقول فى خبر ينسبه لعمر بن الخطاب وكعب الأحبار.. أن الخصب لما ذهب إلى مصر قال له الذل: وأنا معك! وفى خبر آخر أن الشيطان حين ذهب للشام والعراق طرد، لكنه حين نزل مصر باض فيها وأفرخ، وأن أرض مصر نجسة، ونساء مصر شر النساء! هذا الموقف الحاقد من مصر والمصريين، موقف مفهوم من شعوب وجماعات صحراوية عاشت تاريخها كله تعانى الجوع والعطش، وتنظر لمصر من بعيد تقترب منها وتبتعد، لكنه غير مفهوم حين يصبح ثقافة يتبناها المصريون، ويعرفون بها أنفسهم، ونحن إذن فى أشد الحاجة لمراجعة هذا التاريخ. نراجع هذا التاريخ لنصحح وعينا بأنفسنا، ونميز بين القيم الدينية والأخلاقية الرفيعة، والأساطير التى لا تعبر إلا عن بيئات معينة، وعصور بعيدة، والمشكلة التى نواجهها فى هذه المراجعة تتمثل فى هذا الخلط الشائع المنتشر بين الأسطورة والدين، وهى مشكلة لا نستطيع أن نتغلب عليها إلا بالثورة، وهو ما حدث بالفعل فى ثورة يناير، التى تحررنا فيها من الأساطير السياسية، والأساطير الدينية، من حكم الضباط فى يناير، وحكم الإخوان فى يونيو، فإن كنا لا نزال نواجه فلولهما فالثورة لم تزل مشتعلة. بل إن الثورة فى مصر لم تهدأ أبدا، وإذا كان تاريخ مصر فى القرون الثلاثين الماضية سلسلة من النكبات، فتاريخ مصر فى القرون الثلاثين الماضية سلسلة من الثورات التى كانت تقمع بكل عنف ووحشية، لكنها لا تلبث أن تشتعل من جديد. المصريون ثاروا على الهكسوس الذين احتلوا مصر فى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وثاروا على الليبيين فى القرن العاشر قبل الميلاد، وثاروا على الفرس، وثاروا على الرومان، والبيزنظيين ثورات متوالية آخرها فى القرن السادس الميلادي، وخلال القرنين الثانى والثالث الهجريين (الثامن والتاسع الميلاديين) لم تهدأ ثوراتهم ضد الحكام العرب، وثاروا فى هذا العصر الحديث ضد المحتلين الفرنسيين والإنجليز، وضد الحكام الطغاة كما رأينا فى ثورة عرابي، وفى ثورة يناير التى مازالت مشتعلة حتى الآن، لأنها ليست مجرد صراع بين المصريين وحكامهم، وإنما هى أيضا صراع بين المصريين وأنفسهم. إنهم يتوقون للحياة الحرة الكريمة التى عبروا عنها فى شعاراتهم، لكنهم مكبلون بتلك الثقافة التى تكبح جماحهم، يخطون الخطوة ولا يكملونها، ويثورون على الطغيان ليقعوا من جديد فى أحضانه، لهذا تظل الثورة مشتعلة، ونظل فيها نصارع حكامنا، ونصارع أنفسنا حتى نتحرر! لمزيد من مقالات بقلم: أحمد عبدالمعطى حجازى