هناك مقولات تنتشر عن شعب ما لا تستند إلي حقيقة، ولا إلي واقع تاريخي، وتكتسب قوة بفضل الجهل لا أكثر، ويمضي التأكيد عليها متخذاً براهين زائفة، ومن بين تلك المقولات أن "المصريون شعب لا يثور"، لهذا كانت الثورة علي مبارك ونظامه أشبه بالمعجزة كما رآها كثيرون، ماضين في تحليلهم، المستند علي المقولة السابقة، بأن فساد ذلك النظام غير المسبوق هو ما أخرج هذا الشعب عن طبيعته اللينة ليصبح شرساً علي غير عادته، مطالباً بحقوقه كما لم يفعل من قبل. الواقع أن قراءة التاريخ تثبت أن معظم، إن لم يكن كل، ما استقر في الوعي الجمعي ليس إلا أكاذيب رسختها وسائل الإعلام، والمناهج التعليمية، وشيوخ المنابر، بقصد الحفاظ علي وضع ما تريده السلطة القائمة. يأخذ محقق التراث المصري عبد العزيز جمال الدين علي عاتقه مهمة تفنيد المقولة البائسة والتي التصقت بالمصريين كسبة ساعد في تأكيدها نزوعهم إلي الهدوء النسبي بعد ثورة يوليو، وهو ما حدث ربما لظنهم أنهم ولأول مرة عبر تاريخهم الطويل يحكمون أنفسهم بأنفسهم، قبل أن يعودوا للتأكد من أنه محتل جديد لكنه هذه المرة بصبغة وطنية فعادوا ببساطة في 25 يناير لممارسة ما كانوا يفعلونه طوال العهود الفائتة. يضع المؤلف قارئه في كتابه الجديد الصادر عن دار الثقافة الجديدة أمام حالة لا تحتمل اللبس وهي أن المصريين لم يهنأوا خلال تاريخهم الطويل بحكم عادل، لكنهم في المقابل لم يخنعوا أبدا، وبالنسبة إلي المؤلف فهي حالة واقعية يؤكد عليها بداية من العنوان "ثورات المصريين حتي عصر المقريزي"، وإذا كان الكثيرون يعرفون، كما أريد لهم أن يعرفوا، أن المصريين قاوموا المحتل الأجنبي المتمثل في الفرس، والبطالمة، والرومان، إلا أن ما ليس معروفا بالقدر نفسه، أن ما تم تسميته لاحقا زورا وبهتانا بالفتح العربي لمصر لم يكن في نظر أجدادنا إلا احتلالا جديدا لابد من مقاومته بكل الطرق، والمؤرخون، الذين يستند إليهم كتاب عبد العزيز جمال الدين، حين يعالجون هذه المسألة فإنهم يسمون الأشياء بأسمائها فهو هنا "غزو" و"احتلال" وليس كما درج علي تسميته بعد ذلك تخفيفا وتغييرا لطبيعته بأنه "الفتح الإسلامي"، ومن هؤلاء: ابن عبد الحكم، والطبري، وياقوت الحموي، وأبو المحاسن، والسيوطي. والمؤكد أن الفرق بين المصطلحات في هذه الحالة يتجاوز مجرد الاختلافات اللغوية البسيطة، فأي من المصطلحين سواء كان "الغزو" أم "الفتح" يكتسب دلالته من الحوادث الواقعة علي الأرض، فالفتح يعني ترحيب أهل المكان بالجيوش والقوات التي أتت لتخليصهم مما هم فيه، وفي الحالة المصرية فلا يمكن نفي أن ما سبق وجود العرب كان بالفعل حلقة من حلقات الاضطهاد التي خبرها ذلك الشعب طوال تاريخها، لكن هل جاء العرب ك "مخلصين" بالفعل؟ أم أن الأمر لم يعدو كونه استبدال احتلال باحتلال آخر؟ ربما تكمن الإجابة المبدئية في كلمة عمرو بن العاص الشهيرة والتي ينقلها المؤلف عن الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"... "ان مصر إنما دخلت عنوة، وإنما هم عبيدنا نزيد عليهم كما شئنا ونضع كما شئنا". والكلمة تلك تعكس فلسفة حكم وطريقة في التعامل مع الشعب المحتل، وقد تم تطبيقها بصرامة تتعارض في كثير من أوجهها مع تعاليم الدين الذي جاء جيش عمرو بن العاص لنشره: "وأصبحت جباية الجزية أهم من نشر الدين نفسه، ومن عجز عن دفع الجزية كان يدخل الإسلام مُكرهاً أو يُقتل". وكما يقول المؤلف فقد كانت الجزية المورد الرئيس لعمرو ورجاله حتي أنهم ومثلما يسجل المقريزي في الجزء الثاني من "المواعظ والاعتبار"... "ففرض عليهم (أي الأقباط) عمرو لكل رجل من أصحابه ديناراً وجبة وبرنساً وعمامة وخفين". ويستنتج المؤلف: فيما معناه أنهم أتوا من جزيرتهم الصحراوية حفاة وعرايا وأقباط مصر أعطوهم الكساء والمأكل والمأوي. الضيف الثقيل وقبل أن تسارع في القول بأن ذلك الكلام يصب في خانة الهجوم علي الفتح العربي العظيم الذي نشر الإسلام في أرض مصر، وقبل أن تردد ما حفظته لك الماكينة الإعلامية في هذا الشأن، عليك بقراءة بقية فصول الكتاب لتدرك أن الأمر تعدي مسألة الدين ليصبح احتلالا كامل الشروط والمواصفات، فإذا كانت الجزية لها شروطها ومعاييرها الدينية والقانونية والتي يمكن فهمها في إطار "الضريبة" علي سبيل المثال والتي تضمن لمن يدفعها حقوقاً وتضع علي من يتلقاها مسؤولية تقديم الخدمات المختلفة، إلا أنه من الصعب فهم ذلك الفرض الغريب الذي وضعه بن العاص علي أقباط مصر والقاضي بأن يستضيفوا المسلمين في بيوتهم وبين عائلاتهم ثلاثة أيام، يأكلون خلالها ويشربون، وتُستباح حرمة أهل البيت أمامهم. وليت تلك الضيافة الإجبارية توقفت عند هذا الحد، فذلك الشرط الإجباري واللا ديني واللا أخلاقي والذي جاء في شروط الصلح مع أقباط مصر، تحول إلي ما يعرف ب "الإرتباع" والذي يعني أن البدوي يقضي شهر الربيع كاملا في أي منزل يختاره في ريف مصر، فالأيام الثلاثة المنصوص عليها في اتفاقية الصلح تضاعفت في الواقع إلي ثلاثة أشهر! قراءة التاريخ تجعلنا ندرك أن مصر لم تكن بالنسبة للعرب إلا مثلما كانت لبقية أنواع الاحتلال السابقة: مخزناً للثروات لا أكثر. يذكر المقريزي أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال لقبطها: إن من كتمني كنزاًً عنده فقدرت عليه قتلته. وفي هذا الشأن نجد حوادث عديدة، ومن بينها ما يذكره هشام بن أبي رقية اللخمي: قدم صاحب اخنا علي عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقال له أخبرنا ما علي أحدنا من الجزية فنصير لها. فقال عمرو وهو يشير إلي ركن كنيسة: لو أعطيتني من الأرض إلي السقف ما أخبرتك ما عليك،