جوهر التعديلات الدستورية التي طرحها حزب العدالة والتنمية علي البرلمان التركي نهاية مارس الماضي هو إعادة هيكلة مؤسسة القضاء بجميع تشكيلاتها الرئيسية, وترسيم صلاحياتها فقط في إطار إقامة حكم القانون, وبما يضمن حيدتها في الصراعات السياسية التي تشهدها البلاد, وتشمل التعديلات قضايا أخري تهدف إلي توسيع الحريات السياسية, وتحصين الأحزاب السياسية من الحل والإغلاق, وضبط أداء المؤسسة العسكرية وفق أحكام القانون والدستور علي أساس قاعدة الحياد السياسي, والتفرغ لحماية أمن الدولة من الأخطار الخارجية, ولكن كل هذه التعديلات في رأينا تأتي علي هوامش المعركة الأساسية التي تتناولها التعديلات وهي معركة إعادة هيكلة المؤسسة القضائية. التعديلات تستهدف في جملتها تعزيز الحقوق والحريات الاساسية الفردية والجماعية من جهة, وتعزيز دولة المؤسسات وحكم القانون وحيادية القضاء من جهة أخري, الأمر الذي يقرب تركيا أيضا من الحصول علي عضوية الاتحاد الأوروبي, هذا ما أكده رئيس الحكومة رجب أردوغان وقادة حزب العدالة والتنمية, ومعهم كثيرون من قادة الرأي وكبار المفكرين, وأساتذة القانون والسياسة بالجامعات التركية. ولكن أحزاب المعارضة, وفي مقدمتها حزب الشعب الجمهوري, وحزب الحركة القومية وبعض كبار رجال القضاء, وبعض الكتاب والصحفيين يقفون علي الجانب الآخر, ويؤكدون أن التعديلات تهدف إلي المساس باستقلال القضاء وتقليص صلاحياته, إلي جانب رغبة الحزب في وقاية نفسه من احتمالات الحل بعد أن نجا بصعوبة من هذا المصير سنة2008 علي خلفية اتهامه بأنه بؤرة لنشاطات معادية للعلمانية. لن تكون معركة التعديلات سهلة هذه المرة, كما لم تكن سهلة في المرات السابقة, ومن المرجح ألا يتمكن حزب العدالة والتنمية من تمريرها من خلال البرلمان, وأنه سيضطر إلي إجراء استفتاء شعبي حسب الإجراءات الدستورية, وأيا كان الأمر, فإن تركيا تقف علي أعتاب مرحلة جديدة ترسم ملامحها حزمة التعديلات الدستورية المطروحة في اتجاهين. الاتجاه الأول: والأكثر حساسية, هو إعادة هيكلة ورسم اختصاصات المؤسسات القضائية الرئيسية: مجلس الدولة, ومجلس القضاء الأعلي, ومحكمة الاستئناف العليا, والمحكمة الدستورية العليا. هذه المنظومة القضائية تشكل حاليا أقوي ما تبقي من معاقل العلمانية الأتاتوركية, بعد أن نجح حزب العدالة وحكومته في إزاحة هذه القوي العلمانية المتطرفة تماما من بعض معاقلها مثل: الحكومة, ورئاسة الجمهورية, أو تحجيم وجود هذه القوي, مثلما حدث في كل من البرلمان, وقيادة أركان الجيش, والمستويات العليا من البيروقراطية العامة للدولة, خاصة المجلس الأعلي للتعليم والجامعات. من المواد التي تتناولها التعديلات المقترحة نص م/146 من الدستور, وهي التي تحدد اختصاصات المحكمة الدستورية العليا, كما تحدد طريقة تكوينها, ويقضي التعديل المقترح بزيادة عدد أعضاء المحكمة الدستورية من11 حاليا إلي17 عضوا أصيلا, علي أن يختار البرلمان اثنين منهم بالتصويت السري, أما باقي الأعضاء فيختارون بمعرفة رئيس الجمهورية, علي أن تكون ولاية العضو المنتخب12 عاما مدة واحدة غير قابلة للتمديد, وعلي أن يحال العضو إلي التقاعد إذا بلغ سن التقاعد حتي لو لم تنته مهلة ال12 سنة في المحكمة. وبالنسبة لصلاحيات المحكمة, تقضي التعديلات فيما يتعلق بقضايا حل الأحزاب السياسية أن يصدر القرار بأكثرية ثلثي عدد أعضائها, وليس بالأغلبية المطلقة النصف زائد واحد كما هو معمول به حاليا. كثيرون من أساتذة السياسة والقانون الدستوري في تركيا, مثل أرجون وأوزبودون, ومحمد ألتان, وليفنت كوكر, وأرسين كليج أوغلو, وغيرهم يرون أن الوضع القائم للمؤسسة القضائية لا ينسجم مع التحولات الديمقراطية التي تسعي تركيا إلي استكمالها وهي تهيئ نفسها لعضوية الاتحاد الأوروبي, ويرون أنه من غير المقبول ديمقراطيا أن يقوم أعضاء المؤسسات القضائية بتعيين بعضهم بعضا في المناصب العليا لهذه المؤسسة, والممارسات العملية في السنوات السابقة كشفت عن أن غلبة التوجه العلماني المتشدد علي تلك الرئاسات القضائية قد حولها بحكم الأمر الواقع إلي طرف في المنافسات السياسية والحزبية, الأمر الذي يشكك في شرعيتها وحياديتها, وأضحي المواطن العادي يعتبر القضاء عقبة في طريق الإصلاح السياسي. الاتجاه الثاني: للتعديلات الدستورية هو أنها تعزز الحريات الأساسية للأفراد والأحزاب السياسية, وتقربها من المعايير الأوروبية للحريات وحقوق الانسان, ومن ذلك اقتراح تعديل م/10 من الدستور الخاصة بمبدأ المساواة أمام القانون, والمقترح هو إضافة فقرة تقول إنه: يجب أن ألا تفسر الاجراءات التي تتخذ, علي نحو يتعارض مع مبدأ المساواة, وفي حال إقرار هذا الاقتراح, فإنه سيفتح الطريق مجددا لإزالة الحظر المفروض علي ارتداء الحجاب في المؤسسات الحكومية والجامعات, وكانت المحكمة الدستورية قد ألغت تعديلا أقره البرلمان في فبراير2008 علي المادتين10 و42 بهدف تحقيق المساواة في تلقي الخدمات التعليمية دون تمييز بسبب الزي وعدم حرمان الطالبات المحجبات من هذا الحق في التعليم علي قاعدة المساواة. ما يثير حفيظة القوي العلمانية السلبية, هو الاقتراح الخاص بتعديل بنص م/69, وهي التي تتضمن شروط رفع دعوي حل حزب من الأحزاب السياسية, فهذه المادة في وضعها الحالي تحدد المخالفات التي تسوغ اتخاذ إجراءات قانونية لحل حزب من الأحزاب السياسية, ومن أهمها: إذا هددت أنشطته استقلالية الدولة ووحدتها, أو تعارض مع سيادة الشعب وقواعد الجمهورية الديمقراطية العلمانية, ففي مثل هذه الحالات يكون الحزب معرضا للحل, وذلك بناء علي دعوي يقيمها المدعي العام الجمهوري. عملية حل الأحزاب ستصبح بالغة الصعوبة في ظل التعديلات المقترحة, ومنها: أنه لا يجوز حل الحزب إلا إذا ثبت أنه يمارس العنف بشكل مباشر, ومنها أيضا أنه لا يجوز للمدعي العام أن يفتح دعوي لحظر أي حزب دون أخذ موافقة مسبقة من البرلمان علي ذلك. وتتم موافقة البرلمان بواسطة لجنة مؤلفة من خمسة أعضاء عن كل حزب ممثل في البرلمان برئاسة رئيس البرلمان, وتأخذ اللجنة قراراتها بأكثرية ثلثي أعضائها وبطريقة سرية, وفي حال رفضت الدعوي يمنع علي المدعي العام تقديم طلب ثان, وفي حال الموافقة, ووصلت المحكمة إلي قرار حل حزب ما فلا يجوز أن يستمر الحل أكثر من ثلاث سنوات, كما لا يحرم نواب الحزب في البرلمان من عضويتهم نتيجة لقرار حل حزبهم. من شأن مثل هذه التعديلات أن تكرس مبدأ سيادة الشعب واحترام إرادته, وتدعم الممارسة السياسية بعيدا عن مبدأ الوصاية والاقصاء بحجة تهديد أمن الدولة ومبادئ العلمانية والوحدة القومية, ومن شأنها أيضا أن تساعد المجتمع التركي علي أن يسترد الولاية الكاملة علي نفسه, ويتحرر من أن يكون في خدمة سلطة الدولة المستعلية عليه باسم العلمانية,