سعى حزب العدالة والتنمية التركى خلال الفترة الأولى لتوليه الحكم عام 2002 إلى النأى بنفسه عن أى توترات مع المعسكر العلمانى فى البلاد، إذ كانت تجربة الأب الروحى للحزب نجم الدين أربكان لاتزال ماثلة فى الأذهان، إذ تمت الإطاحة به من حكم تركيا عام 1996 قبل أن يتم حل حزبه عام 2001. وبدا واضحا أن الحزب يركز على التنمية الاقتصادية وتحسين علاقات تركيا الدبلوماسية بجيرانها فى الشرق الأوسط وأوروبا، وتجنب الحزب الخوض فى أى مصادمات داخلية حول «علمانية الدولة» حتى عام 2007، إذ تمكن الحزب حتى هذا التاريخ من الاستحواذ على دعم غالبية واضحة من الأتراك، نظرا للتحسن الاقتصادى الكبير الذى طرأ فى تركيا، فضلا عن وضوح تحسن علاقات أنقرة مع جميع الدول المحيطة. وجاء عام 2007 ليشكل نقطة فارقة فى هذا الإطار، من خلال حشد حزب العدالة والتنمية لقواه خلف القيادى فيه عبدالله جول ليحصل على الرئاسة التركية، وبدا واضحا مدى القوة التى يحوزها الحزب فى الحياة السياسية التركية من خلال الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، على الرغم من امتلاك الحزب أغلبية برلمانية مريحة، ونجاحه فى الحصول على الأغلبية مرة ثانية بعد إجراء الانتخابات المبكرة. وتنوعت الصراعات مع «العدالة والتنمية» حول العديد من القضايا بعد ذلك أبرزها، قضية ارتداء الحجاب فى الجامعات، غير أن رصيد «العدالة والتنمية» الشعبى بدا حائلا دون الإطاحة بالحزب، وهو ما بدا واضحا من خلال عجز المحكمة العليا التركية فى 2008 عن إصدار قرار بحل الحزب على الرغم من اعترافها بأنه «يعمل ضد العلمانية»، مما يعد مسوغا دستوريا لحل الحزب وربما لاعتقال بعض أعضائه وقياداته. وبدأ «العدالة والتنمية» خلال العام الأخير فى تصعيد المواجهات مع المؤسسات العلمانية فى الدولة التركية، بدءا من الأحزاب مرورا بالجيش وانتهاء بالقضاء، وبدا ذلك واضحا من خلال سلسلة الاعتقالات التى تمت فى صفوف الجيش بتهم تتعلق بالتآمر للانقلاب على «العدالة والتنمية»، وبغض النظر عن صحة هذه الاتهامات من زيفها، فإن تهما مثل تلك لم تكن لتواجه قيادات الجيش – وبهذه القوة والكثرة - إلا فى ظل ميزان قوى يميل لصالح «العدالة والتنمية». وخلال الأيام القليلة الماضية بدا واضحا أن العدالة والتنمية قرر أن يصل بالمواجهة مع العلمانيين إلى درجة أعلى من خلال السعى إلى تعديل 26 مادة دستورية، وتنصب معظم التعديلات على الحد من سلطات الجيش والقضاء لحساب السلطتين التشريعية والتنفيذية. وتشمل التعديلات المقترحة قيام رئيس الجمهورية بتعيين غالبية أعضاء المحكمة الدستورية (بما يضمن تعديله بعد ذلك)، والحد من الصلاحيات التنفيذية لبعض الهيئات القضائية، وزيادة العقبات أمام حل الجهات القضائية للأحزاب، ومحاكمة العسكريين أمام القضاء المدنى وإزالة عوائق محاكمة منفذى الانقلابات العسكرية. ويبدو واضحا أن الهدف من كل تلك التعديلات أن يضمن الحزب أن الجيش أو القضاء التركيين لن يقوما باستهدافه خلال المرحلة المقبلة، مما يؤشر لنية الحزب التصعيد فى مواجهة العلمانيين بشكل يهدد بحله. ويبدو أن الحزب ينوى الرجوع خلال الفترة المقبلة إلى أداته الرئيسية فى مواجهة المؤسسات العلمانية القوية فى الدولة وهى «الشرعية»، فعلى الرغم من أن الحزب يسعى لتمرير التعديلات الدستورية المقترحة من خلال التفاوض مع الأحزاب لتمريره فى البرلمان، فإنه يهدد فى الوقت نفسه بأن يلجأ للاستفتاء الشعبى لتمرير التعديلات، بما يشير لاحتمال صدام جديد يلعب فيه الشارع التركى، الموالى للعدالة فى غالبيته، دور البطولة.