لا أدرى كيف تفتق ذهن ناظر المدرسة عن هذه الفكرة المجنونة. إذ أقسم فى ذات صباح ممطر, ونحن واقفون طابور الصباح, برحمة والده أن باب المدرسة سيغلق فى الثامنة صباحاً. وأن الأمور ستستقر على هذا النحو: من بالداخل سيظل بالداخل ومن بالخارج سيظل بالخارج. وفعلاً نفذ تهديده فى اليوم التالى مباشرة, وكنت أنا أكثر المتضررين من هذا القرار المشؤوم. إذ كان يحضر عشرات من الطلبة ويتعمدون التأخير وعندما يجدون الباب الحديد مغلقا بالقفل والجنزير يقولون فى صوت واحد (بركة يا جامع) ثم يتحركون جماعات.. بعضهم يستقر به المقام فى المقهي.. والبعض الآخر يجوبون الشوارع دون هدف محدد. والبعض الثالث (يركنون) بجوار مدرسة بنات التجارة. إلا أنا.. الدموع تترقرق فى عيني.. كيف أتسكع وأنا ليس معى أى نقود.. ولو كان معى لركبت المواصلات ووصلت إلى المدرسة مبكراً. إننى أتعمد أحياناً أن أتغيب يوم الخميس ومعه يوم الجمعة - الإجازة الرسمية – حتى أعمل فى المحارة أو خلف بناء أو فى حفر المساقى .. أو أى عمل, حتى أستطيع الإنفاق على أخواتى الثلاث ووالدتي.. لكى أساعد فى المعيشة بجانب معاش والدى المحدود, وجنيهات السادات التى تأخذها والدتى الطاعنة فى السن. أقطع يوميا ما يقارب السبعة كيلومترات على الطريق المترب ولكن دائماً أفشل فى الوصول إلى المدرسة فى تمام الثامنة كما يريد حضرة الناظر. القرار مازال ينفذ فماذا أفعل؟ تجرأت وقفزت من فوق السور. قبض على الفراش, أدخلنى إلى حجرة الناظر. دون تفاهم انهال على ضرباً بالخرزانة الطويلة والتى يشاع أنه قد (حمصها) فى الفرن (ونقعها) فى الزيت لعدة أيام من أجل أن تؤلم أكثر. نزلت الدموع تسيل فى صمت. وأنا أتوسل فى صوت واهن.. أننى أريد أن استفيد يا حضرة الناظر حرام أن «أطخ» المشوار جيئة وذهاباً ثم لا أستفيد. فكان فى صباح اليوم التالى أن أصدر الناظر قرارا وأذاعه أيضاً فى الإذاعة المدرسة: أن من يتأخر عن الساعة الثامنة سوف يحجز بجوار البوابة من الداخل ويضرب عشر خرزانات. وكالعادة تضررت أيضاً من هذا القرار, لدرجة أننى ما أن أغادر دارنا النائية فى الكفر وأتسلم الطريق الطويل المترب الملتوى كالثعبان- والذى يوصلنى فى النهاية إلى المركز الذى تقع بأحد أطرافه البعيدة مدرستنا الثانوية – حتى أنفخ فى كفى انتظاراً لاستقبال العشر خرزانات المؤلمة. واستمر الحال هكذا ما يقرب من الشهر ولم يرحم لى أى توسل- أو حتى بُعد المكان الجغرافى أو صقيع الشتاء- فى تخفيض هذه الوجبة الصباحية المؤلمة. حتى فوجئت ذات صباح, وأنا استعد فسيولوجيا ونفسياً وذهنيا وكل ما فيّ يتحفز لتلقى الخرزانات العشر, أن الناظر ليست معه الخرزانة الطويلة الشهيرة. ولكن معه دفتر. عرفت فيما بعد أنه دفتر (معونة الشتاء) وأنه بداية من هذه اللحظة الطالب الذى سيتأخر سيدفع خمسين قرشاً ويأخذ خمس ورقات... الطلبة بدأت تدفع. وأنا مندهش من هذا القرار الارتجالي.... كأن هذا الناظر يتفنن فى تعذيبي. أخرجنى من تأملاتى السوداوية أن الدور قد حان ولابد من الدفع. صرخت فى الناظر وهو واقف أمامى مباشرة وحوله كوكبة من المدرسين الأوائل والوكيل والفراش الأسود. صرخت «دا كلام فاضى ولعب عيال. أقسم لك يا سيدى إننى فى حاجة إلى هذه المعونة. والدى متوفي. أخواتى ثلاث وأنا وأمي. أحضر إلى المدرسة يومياً من الكفر سيراً على الأقدام ثم إنك بذلك تطلب منى المستحيل». هوى بكفه اليسرى على صدغى الأيمن. رأيت شرراً يتطاير من عيني. أقسم برحمة والده-وحتى الآن ولا أدرى السر وراء هذا القسم ولكنه قسم مخيف ولابد أن ينفذه- أن لابد من أن أُعبط فى حوش المدرسة. هرع الوكيل لإحضار الخرزانة. مدرس أول العربى أمسك بياقة قميصى من الخلف. أحسست أننى مجرم أواجه عصابة. بقفزة واحدة كنت فوق السور, وبقفزة أخرى كنت فى الطريق تماماً. وأنا أصرخ فى الشارع وكل جزء فى جسدى يصرخ: «أتحمل كل شىء إلا معونة الشتاء يا مولاى».